7-الإنسان في القرآن العظيم:نعمة الوقت

 

الإنسان في القرآن العظيم

7ـ نعمة الوقت

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْرِفَ مَا أَكْرَمَنَا بِهِ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا خَوَّلَنَا بِهِ مِنَ الفَضْلِ، وَأَنْ نَذْكُرَ نِعْمَةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا، حَيْثُ سَخَّرَ لَنَا مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ جَمِيعَاً مِنْهُ، قَالَ تعالى: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقَاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾.

فَاللهُ تَبَارَكَ وتعالى أَكْرَمَنَا بِنِعْمَةِ السَّمَاوَاتِ وَبِنِعْمَةِ الْأَرْضَ، وَبِنِعْمَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَجَعَلَهُمَا ﴿خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورَاً﴾.

وَقَدْ أَنَّبَ اللهُ تعالى الكُفَّارَ لِمَا أَعْطَاهُمْ مِنَ العُمُرِ المَدِيدِ، فَلَمْ يَسْتَفِيدُوا مِنْهُ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾.

وَمَدَحَ المُؤْمِنِينَ الذينَ اسْتَغَلُّوا أَنْفَاسَ أَعْمَارِهِمْ، وَاغْتَنَمُوا أَوْقَاتَهُمْ في طَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾.

وَبَّخَ اللهُ تعالى الفَرِيقَ الأَوَّلَ، مَعَ أَنَّ اللهَ تعالى عَمَّرَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَفِيدُوا مِنَ العُمُرِ؛ وَمَدَحَ الفَرِيقَ الثَّانِي، لِأَنَّهُمُ اغْتَنَمُوا الأَيَّامَ الخَالِيَةَ، وَاغْتَنَمُوا أَعْمَارَهُمْ في طَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ اللَّهُمَّ أَطِلْ أَعْمَارَنَا وَحَسِّنْ أَعْمَالَنَا. آمين.

الزَّمَنُ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِ اللهِ تعالى:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذِهِ الشَّمْسُ وَهَذَا القَمَرُ، وَهَذَا اللَّيْلُ وَهَذَا النَّهَارُ مِنْ نِعَمِ اللهِ تعالى عَلَيْنَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، وَلَا شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ زَمَنٌ يَقْضِي فِيهِ العِبَادُ أَعْمَالَهُمْ، فَكَيْفَ سَيَكُونُ الحَالُ؟ قَالَ تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدَاً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدَاً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.

لِذَلِكَ كَانَ هَذَا الزَّمَنُ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِ اللهِ تعالى، جَعَلَهُ اللهُ تعالى لِيَسْتَفِيدَ مِنْهُ العِبَادُ ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورَاً﴾. وَهَذَا مِنْ تَكْرِيمِ اللهِ تعالى لِلْعَبْدِ، وَمِنْ جُمْلَةِ النِّعَمِ التي غَفَلَ عَنْهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ؛ وَلَمَّا كَانَ الزَّمَانُ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِ اللهِ تعالى على عَبْدِهِ، فَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾. وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذِهِ النِعْمَةُ نِعْمَةُ الزَّمَنِ نِعْمَةٌ جُلَّى، وَنِعْمَةٌ كُبْرَى لَا يَسْتَفِيدُ مِنْهَا إِلَّا المُوَفَّقُونَ، أَمَّا المَغْبُونُونَ الخَاسِرُونَ فَهُمُ المُفَرِّطُونَ في أَوْقَاتِهِمْ، المُهْدِرُونَ لِطَاقَاتِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ كَثِيرُونَ مَا عَرَفُوا قِيمَةَ أَعْمَارِهِمْ، وَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ حَدِيثُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ» رواه الإمام البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

الوَقْتُ سَرِيعُ الزَّوَالِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِذَا كَانَ مِنْ مَزَايَا الوَقْتِ المُدْرَكَةِ أَنَّهُ سَرِيعُ الزَّوَالِ، وَأَنَّ مَا مَضَى مِنْهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ أَو يُعَوَّضَ، وَأَنَّهُ أَنْفَسُ مَا لَدَى الإِنْسَانِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيُعْتَبَرُ رَأْسَ مَالِهِ الحَقِيقِيِّ، بَلْ هُوَ الحَيَاةُ حَقَّاً، فَإِنَّ على المُسْلِمِ وَاجِبَاتٍ نَحْوَ وَقْتِهِ يَجِبُ أَنْ يَعِيَهَا وَأَنْ يَنْقُلَهَا مِنْ دَائِرَةِ المَعْرِفَةِ وَالإِدْرَاكِ إلى حَيِّزِ العَمَلِ، يَجْمَعُهَا الحِرْصُ على الاسْتِفَادَةِ مِنَ الوَقْتِ فِيمَا يَنْفَعُ في أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَمَا يَعُودُ على أُمَّتِهِ بِالخَيْرِ وَالصَّلَاحِ.

وَإِنَّهُ لَمِمَّا يُؤْلِمُ القَلْبَ وَيَزِيدُهُ أَسَىً وَحَسَرَاتٍ وَزَفَرَاتٍ مَا يُلْحَظُ اليَوْمَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِنْ إِضَاعَةٍ للأَوْقَاتِ تَجَاوَزَتْ حَدَّ التَّبْذِيرِ إلى التَّبْدِيدِ، وَوَصَلَتْ إلى مَرَاحِلَ مِنَ السَّفَهِ البَالِغِ، حَتَّى إِنَّكَ لَتَسْمَعُ كَثِيرَاً عِبَارَةً تَدُورُ على أَلْسِنَةِ بَعْضِ المَغْبُونِينَ الذينَ يَحْيَوْنَ حَيَاةَ الأَنْعَامِ، وَيَعِيشُونَ عَيْشَ الطَّغَامِ، هِيَ عِبَارَةُ: (قَتْلُ الوَقْتِ) وَمَا عَلِمَ هَؤُلَاءِ أَنَّ مَنْ قَتَلَ وَقْتَهُ قَتَلَ نَفْسَهُ، وَوَأَدَ كَرَامَتَهُ في الحَقِيقَةِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ جَرِيمَةَ قَتْلِ الوَقْتِ وَتَبْذِيرِهِ مِنْ أَخْطَرِ الجَرَائِمِ وَأَشَدِّهَا فَتْكَاً بِالأَفْرَادِ وَالمُجْتَمَعَاتِ، فَهُوَ وَرَاءَ كُلِّ مُشْكِلَةٍ، وَسَبَبُ كُلِّ مُعْضِلَةٍ، وَخَلْفَ تَوَرُّطِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ في المُشْكِلَاتِ وَالأَخْلَاقِيَّاتِ، حَتَّى صَارَ لِسَانُ حَالِهِمْ يَقُولُ:

إِنَّمَا الحَيَاةُ طَعَامٌ وَشَرَابٌ وَمَنَامٌ   ***   فَإِنْ فَاتَكَ هَذِهِ فَعَلَى الدُّنْيَا السَّلَامُ

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَتَّقِ اللهَ تعالى في هَذِهِ النِّعْمَةِ التي أَكْرَمَنَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا، لِنَتَّقِ اللهَ تعالى في نِعْمَةِ الزَّمَنِ التي سَاقَهَا اللهُ تعالى إِلَيْنَا مِنْ خِلَالِ تَسْخِيرِ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ لَنَا، لِنَتَّقِ اللهَ تعالى في أَنْفَاسِ أَعْمَارِنَا قَبْلَ أَنْ تَحُلَّ بِنَا سَاعَةُ الاحْتِضارِ، وَقَبْلَ أَنْ نُوَسَّدَ الثَّرَى، وَقَبْلَ أَنْ نُعْرَضَ على الجَلِيلِ الجَبَّارِ، لِنَتَّقِ اللهَ تعالى قَبْلَ الوُقُوعِ في سَكَرَاتِ المَوْتِ، حِينَ يَتَمَنَّى العَبْدُ المُسْرِفُ على نَفْسِهِ العَوْدَةَ لِيَعْمَلَ وَلَوْ حَسَنَةً وَاحِدَةً، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، قَالَ تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحَاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ مِمَّنْ عَرَفَ قِيمَةَ نِعْمَةِ الزَّمَنِ وَالوَقْتِ، فَكَانُوا أَحْرَصَ النَّاسِ على كَسْبِ الوَقْتِ وَشُغْلِهِ بِجَلَائِلِ الأَعْمَالِ، فَقَدْ كَانُوا يُبَادِرُونَ اللَّحَظَاتِ وَيُسَابِقُونَ السَّاعَاتِ، ضَنَّاً مِنْهُمْ بِالوَقْتِ، وَحِرْصَاً على أَنْ لَا تَذْهَبَ بُرْهَةٌ مِنْهُ دُونَ أَنْ يَتَزَوَّدُوا مِنْهَا بِعِلْمٍ نَافِعٍ، أَوْ عَمَلٍ صَالِحٍ.

يَقُولُ سَيِّدُنَا الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: أَدْرَكْتُ أَقْوَامَاً كَانُوا عَلَى أَوْقَاتِهِمْ أَشَدَّ مِنْكُمْ حِرْصَاً عَلَى دَرَاهِمِكُمْ وَدَنَانِيرِكُمْ.

وَيَقُولُ سَيِّدُنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: إِنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَعْمَلَانِ فِيكَ، فَاعْمَلْ أَنْتَ فِيهِمَا.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قَدِّرُوا نِعْمَةِ اللهِ تعالى عَلَيْكُمْ، قَدِّرُوا تَكْرِيمَ اللهِ تعالى لَكُمْ، فَاللهُ تعالى سَخَّرَ لَنَا مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ جَمِيعَاً مِنْهُ، اخْتِبَارَاً وَابْتِلَاءً، فَلْنَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لَا مِنَ الجَاحِدِينَ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِذَلِكَ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 23/ صفر الخير /1438هـ، الموافق: 23/ تشرين الثاني / 2016م