103-مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم:«فَأَلْقِ رِدَاءَكَ عَلَى وَجْهِكَ»

 

مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

103ـ «فَأَلْقِ رِدَاءَكَ عَلَى وَجْهِكَ»

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ الانْحِرَافَ عَنْ جَادَّةِ الصَّوَابِ، وَالابتِعَادَ عَنْ نَهْجِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ هَلَاكِ وَدَمَارِ الأُمَّةِ.

وَالحَيَاةُ التي قَضَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ نَعِيشَهَا في الدُّنْيَا هِيَ حَيَاةُ اخْتِبَارٍ وَابْتِلَاءٍ وَفِتَنٍ، وَقَدْ تَكُونُ الفِتْنَةُ صَغِيرَةً، وَقَدْ تَكُونُ كَبِيرَةً، قَدْ تَكُونُ فِتْنَةُ الرَّجُلِ نَابِعَةً مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ، وَقَدْ تَكُونُ الفِتْنَةُ فُرْقَةً وَخُصُومَةً تَصِلُ إلى حَمْلِ السِّلَاحِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَدْ تَكُونُ الفِتْنَةُ نَابِعَةً مِنْ قَلْبِ الأُمَّةِ، وَقَدْ تَكُونُ نَابِعَةً مِنْ أَعْدَاءِ الأُمَّةِ، وَالأَسْوَأُ حَالَاً أَنْ تَكُونَ الفِتْنَةُ مِنْ دَاخِلِ الأُمَّةِ وَخَارِجِهَا، حَتَّى تَصِلَ إلى سَفْكِ دِمَائِهَا.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: المُؤْمِنُ الصَّادِقُ في إِيمَانِهِ هُوَ الذي يَسْتَقِيمُ عَلَى شَرْعِ اللهِ تعالى مَهْمَا اشْتَدَّتِ الفِتَنُ، وَمَهْمَا اشْتَدَّ البَلَاءُ، المُؤْمِنُ الصَّادِقُ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ نَزْعَةُ شُرُورٍ وَلَا فِتْنَةٍ، وَمُسْتَحِيلٌ أَنْ تَكُونَ الفِتْنَةُ نابِعَةً مِنْ قَلْبِ مُؤْمِنٍ صَادِقٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ، لِأَنَّ المُؤْمِنَ الصَّادِقَ مِفْتَاحُ خَيْرٍ مِغْلَاقُ شَرٍّ.

المُؤْمِنُ الصَّادِقُ في إِيمَانِهِ يَسْعَى جَاهِدَاً لِإِخْمَادِ نَارِ الفِتْنَةِ في نَفْسِهِ، وَلِإِخْمَادِهَا فِيمَنْ حَوْلَهُ، وَلَا تَكُونُ عِنْدَهُ نَزْعَةُ شَرٍّ، وَلَا نَزْعَةُ فِتْنَةٍ.

تَحْذِيرُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الفِتْنَةِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الإِنْسَانُ المُؤْمِنُ الصَّادِقُ في إِيمَانِهِ هُوَ مَنْ سَمِعَ تَحْذِيرَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الفِتَنِ، لِأَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَرِيصَاً عَلَى أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَ كَانَ حَرِيصَاً عَلَى أُمَّتِهِ إلى قِيَامِ السَّاعَةِ، لِذَلِكَ حَدَّثَ عَنِ الـشُّرُورِ، لِكَيْ تَكُونَ الأُمَّةُ عَلَى حَذَرٍ.

هَذَا سَيِّدُنَا حُذَيْفَةُ بْنُ اليَمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُحَدِّثُنَا عَنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَقَامَاً، مَا تَرَكَ شَيْئَاً يَكُونُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، إِلَّا حَدَّثَ بِهِ؛ حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ، قَدْ عَلِمَهُ أَصْحَابِي هَؤُلَاءِ، وَإِنَّهُ لَيَكُونُ مِنْهُ الشَّيْءُ قَدْ نَسِيتُهُ فَأَرَاهُ فَأَذْكُرُهُ، كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إِذَا غَابَ عَنْهُ، ثُمَّ إِذَا رَآهُ عَرَفَهُ. رواه الإمام مسلم.

لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَاصِحَاً للأُمَّةِ، رَحِيمَاً وَرَفِيقَاً بِهَا، أَخْبَرَ عَنِ الشُّرُورِ وَالآثَامِ حَتَّى تُجْتَنَبَ، وَحَتَّى لَا يَقَعَ المُؤْمِنُ فِيهَا، وفي ذَلِكَ عِصْمَةٌ للأُمَّةِ إِذَا الْتَزَمَتْ، وَإِلَّا وَقَعَتْ في المَحْذُورِ الذي قَالَ اللهُ تعالى عَنْهُ: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.

المَخْرَجُ مِنَ الفِتَنِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عِنْدَمَا سَمِعَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ تَحْذِيرَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الفِتَنِ، أَحَسُّوا بِخُطُورَتِهَا وَفَدَاحَتِهَا، فَأَخَذُوا يَسْأَلُونَ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنِ المَخْرَجِ مِنْهَا إِذَا وَقَعَتْ.

روى الشيخان عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي.

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟

قَالَ: «نَعَمْ».

فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟

قَالَ: «نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ».

قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟

قَالَ: «قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي، وَيَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ».

فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟

قَالَ: «نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا».

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، صِفْهُمْ لَنَا.

قَالَ: «نَعَمْ، قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا».

قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا تَرَى إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟

قَالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ».

فَقُلْتُ: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟

قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: المُؤْمِنُ الحَقُّ هُوَ الذي يَهْرُبُ مِنَ الفِتَنِ، بِنَاءً عَلَى تَوْجِيهِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلِ: «سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفُهُ، وَمَنْ وَجَدَ فِيهَا مَلْجَأً فَلْيَعُذْ بِهِ» رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

المُؤْمِنُ الحَقُّ يَبْتَعِدُ عَنِ الفِتَنِ وَمَوَاطِنِهَا بِنَاءً عَلَى تَوْجِيهِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «يَا أَبَا ذَرٍّ».

قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ.

قَالَ: «كَيْفَ أَنْتَ إِذَا أَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، تَأْتِي مَسْجِدَكَ فَلَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى فِرَاشِكَ، وَتَأْتِي فِرَاشَكَ فَلَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْهَضَ إِلَى مَسْجِدِكَ».

قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، أَوْ مَا خَارَ اللهُ لِي وَرَسُولُهُ.

قَالَ: «عَلَيْكَ بِالْعِفَّةِ».

ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ».

قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ.

قَالَ: «كَيْفَ أَنْتَ إِذَا رَأَيْتَ أَحْجَارَ الزَّيْتِ (مَوْضِعٌ بِالمَدِينَةِ) قَدْ عُرِّفَتْ بِالدَّمِ؟ (أَي: غَمَرَتْهَا الدِّمَاءُ)».

قُلْتُ: مَا خَارَ (أَيْ: مَا اخْتَارَ) اللهُ وَرَسُولُهُ.

قَالَ: «تَلْحَقُ بِمَنْ أَنْتَ مِنْهُ ـ أَوْ قَالَ: عَلَيْكَ بِمَنْ أَنْتَ مِنْهُ ـ».

قُلْتُ: أَفَلَا آخُذُ سَيْفِي فَأَضَعُهُ عَلَى عَاتِقِي؟

قَالَ: «شَارَكْتَ إِذَاً».

قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي؟

قَالَ: «تَلْزَمُ بَيْتَكَ».

قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ عَلَيَّ بَيْتِي؟

قَالَ: «فَإِنْ خَشِيتَ أَنْ يَبْهَرَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ فَأَلْقِ رِدَاءَكَ عَلَى وَجْهِكَ يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ» رواه الحاكم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

اللَّهُمَّ أَجِرْنَا مِنَ الفِتَنِ التي قَسَّتْ قُلُوبَنَا، وَعَصَفَتْ بِأُخُوَّتِنَا، وَذَهَبَتْ بِرِيحِنَا، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 28/ شعبان /1438هـ، الموافق: 24/ أيار / 2017م