23ـ دروس رمضانية 1438هـ:المؤمن الحق لا يعبد الله على حرف

 

دروس رمضانية 1438هـ

23ـ المؤمن الحق لا يعبد الله على حرف

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ العَبْدَ المُؤْمِنَ هُوَ الذي عَرَفَ الغَايَةَ مِنْ خَلْقِهِ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُون * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُون * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِين﴾.

العَبْدُ المُؤْمِنُ يُمَارِسُ عِبَادَتَهُ للهِ عَزَّ وَجَلَّ في السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، في المَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ، لِأَنَّهُ عَرَفَ ذَلِكَ مِنْ سِيرَةِ أَصْحَابِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ عِنْدَما بَايَعَ الصَّحَابَةُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ سَيِّدَنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام أحمد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ في بَيْعَة العَقَبَةِ الكُبْرَى: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلَامَ نُبَايِعُكَ؟

قَالَ: «تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ المُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللهِ لَا تَأْخُذُكُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ يَثْرِبَ فَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمُ الْجَنَّةُ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: المُؤْمِنُ الحَقُّ الذي لَا يُبَارِحُ بَابَ مَوْلَاهُ وَخَالِقِهِ في كُلِّ أَحْوَالِهِ، وفي سَائِرِ تَقَلُّبَاتِهِ، وَيَظَلُّ مُلْتَصِقَاً بِبَابِهِ مُتَرَامِيَاً عَلَى أَعْتَابِهِ، لِأَنَّهُ عَبْدُهُ، وَلِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَيْهِ.

المُؤْمِنُ الحَقُّ لَا يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: العَبْدُ المُؤْمِنُ لَا يَعْبُدُ اللهَ تعالى عَلَى حَالَةٍ دُونَ حَالَةٍ، وَلَا يَعْبُدُ اللهَ تعالى عَلَى شَرْطٍ، وَلَا يَتَوَجَّهُ إلى اللهِ تعالى في حَالَةٍ دُونَ أُخْرَى، بَلْ هُوَ عَبْدٌ مُتَمَسِّكٌ بِبَابِ مَوْلَاهُ العَزِيزِ إِنْ أَعْطَاهُ أَو مَنَعَهُ، إِنْ قَبِلَهُ أَو طَرَدَهُ، إِنِ اسْتَجَابَ دُعَاءَهُ أَو لَمْ يَسْتَجِبْ، إِنْ أَعَزَّهُ أَو أَذَلَّهُ، إِنْ آتَاهُ النِّعَمَ أَو حَرَمَهُ إِيَّاهَا.

أَمَّا العَبْدُ الذي يُقْبِلُ عَلَى اللهِ تعالى عِنْدَمَا يَرَى النِّعَمَ تَتْرَى عَلَيْهِ وَتَهْوي عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَعِنْدَمَا يَرَى الخَيْرَ مَوْفُورَاً بَيْنَ يَدَيْهِ، وَإِذَا مَا تَحَوَّلَتْ هَذِهِ النِّعَمُ عَنْهُ، وَابْتَلَاهُ اللهُ تعالى بِـشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأموالِ والأنفسِ والثَّمراتِ تبرَّمَ وأعرضَ واعترَضَ وتناسى عُبوديَّتَهُ لله تعالى فهوَ عبدُ سوءٍ، وهوَ في الحقيقةِ عَبْدُ نَفسِهِ وهواهُ ومصلحتِهِ، وهذا ينطبقُ عليه قولُ الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَـسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِين﴾. نعوذُ بالله تعالى أن نكونَ من ذلكَ الصِّنفِ.

المؤمنُ الحقُّ شاكرٌ صابرٌ:

يا عباد الله، إنَّ العبدَ المؤمنَ الحقَّ هوَ الذي يكونُ شاكراً لمولاهُ في الرَّخاءِ، ويكونُ مُتأسِّياً بسيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، جاء في صحيح الإمام مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَ رِجْلَاهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ الله، أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ، أَفَلَا أَكُونُ عَبْداً شَكُوراً»).

العَبْدُ المُؤْمِنُ في الرَّخَاءِ يَكُونُ شَاكِرَاً لِنِعَمِ اللهِ تعالى عَلَيْهِ، فَلَا يَصرِفُ هَذهِ النِّعَمَ إلا وِفقَ طَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِنْ أَعْطَاهُ اللهُ تعالى نِعْمَةَ الجاهِ وَالسُّلْطَانِ، وَإِنْ أَعْطَاهُ نِعْمَةَ الصِّحَّةِ وَالقُوَّةِ، وَإِنْ أَعْطَاهُ نِعْمَةَ المالِ وَسَائِرَ النِّعَمِ فَهُوَ لَا يَطْغَى بِها، لِأَنَّهُ يَعْرِفُ مَصْدَرَهَا بِأَنَّها مِنَ اللهِ تعالى، وَأَنَّ اللهَ تعالى مَا أَعْطَاهُ إِيَّاهَا إِلَّا للاخْتِبَارِ وَالابْتِلَاءِ، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَنْ سَيِّدِنَا سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ عِنْدَمَا قَالَ لِقَوْمِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِين * قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِين * قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرَّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾. فَالمُؤْمِنُ يَكُونُ شَاكِرَاً عِنْدَ العَطَاءِ، وَيَكُونُ عَلَى حَذَرٍ مِنَ الغُرُورِ وَالاسْتِكْبَارِ وَالظُّلمِ وَكُفْرَانِ النِّعَمِ.

أَمَّا في الشَّدَائِدِ وَالمِحَنِ وَالابْتِلَاءَاتِ فَيَكُونُ صَابِرَاً، لِأَنَّهُ يَطْمَعُ بِعَطَاءِ اللهِ تعالى بَعْدَ المِحَنِ، وَلِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّهُ مَا مِنْ مِحنَةٍ إلا وَتَحْمِلُ في طَيَّاتِها مِنَحَاً، كَيْفَ لا يَكُونُ هَذَا اعْتِقَادُهُ وَهُوَ يَقْرَأُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعون * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون﴾. وَهُوَ يَقْرَأُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب﴾؟

كَيْفَ لَا يَكُونُ صَابِرَاً وَهُوَ يَعْلَمُ حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذْ يَقُولُ: «عَجَباً لِأَمْرِ المُؤْمِنِ! إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ» رواه الإمام مسلم عَنْ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ. وَيَعْلَمُ حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا يُصِيبُ المُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا سَقَمٍ وَلَا حَزَنٍ حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ إِلَّا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُما. وَيَعْلَمُ حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَبَقَتْ لِلْعَبْدِ مِنْ الله مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ ابْتَلَاهُ اللهُ فِي جَسَدِهِ، أَوْ فِي مَالِهِ، أَوْ فِي وَلَدِهِ، ثُمَّ صَبَّرَهُ حَتَّى يُبْلِغَهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنْهُ»؟ رواه الإمام أحمد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ  رَضِيَ اللهُ عَنهُ. 

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ لَا نَنْسَى الغَايَةَ مِنْ خَلْقِنَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَمَا خُلِقْنَا إِلَّا للعِبَادَةِ، وَمِنَ العِبَادَةِ: الشُّكْرُ في الرَّخَاءِ، وَالصَّبْرُ في البَلَاءِ، فَمَنْ شَكَرَ في الرَّخَاءِ كَانَ نِعْمَ العَبْدُ، وَمَنْ صَبَرَ في البَلَاءِ كَانَ نِعْمَ العَبْدُ.

تَذَكَّرُوا مَدْحَ اللهِ تعالى لِسَيِّدِنَا سُلَيْمَانَ الشَّاكِرِ حَيْثُ قَالَ عَنْهُ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾. وَتَذَكَّرُوا مَدْحَ اللهِ تعالى لِسَيِّدِنَا أَيُّوبَ الصَّابِرَ حَيْثُ قَالَ عَنْهُ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرَاً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: بِئْسَ العَبْدُ الذي يَطْغَى عِنْدَ العَطَاءِ، وَيَضْجَرُ عِنْدَ البَلَاءِ، بِئْسَ العَبْدُ الذي: ﴿يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَـسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ المُبِين﴾.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الشَّاكِرِينَ عِنْدَ الرَّخَاءِ، وَمِنَ الصَّابِرِينَ عِنْدَ البَلَاءِ، وَمِنَ الرَّاضِينَ بِمُرِّ القَضَاءِ، وَنَسْأَلُكَ يَا رَبَّنَا أَنْ لَا تُحَمِّلَنْا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، يَا رَبِّ عَافِيَتُكَ أَوْسَعُ لَنَا. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 13/رمضان /1438هـ ، الموافق: 8/حزيران/ 2017م