548ـ خطبة الجمعة: القول الحسن شعار الصائم

 

548ـ خطبة الجمعة: القول الحسن شعار الصائم

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: كَمْ نَحْنُ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى كَسْبِ القُلُوبِ حَتَّى تُقْبِلَ عَلَى اللهِ تعالى؟ وَكَمْ نَحْنُ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى كَسْبِ القُلُوبِ حَتَّى نَكُونَ كَالجَسَدِ الوَاحِدِ؟ كَمْ نَحْنُ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى كَسْبِ القُلُوبِ حَتَّى لَا تَذْهَبَ رِيحُنَا؟ كَمْ نَحْنُ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى كَسْبِ القُلُوبِ حَتَّى نَرُدَّ العُصَاةَ إلى جَادَّةِ الصَّوَابِ؟ كَمْ نَحْنُ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى كَسْبِ القُلُوبِ حَتَّى نَرُدَّ الشَّارِدِينَ عَنِ اللهِ تعالى إلى اللهِ تعالى؟

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ النُّفُوسَ أَيَّاً كَانَتْ، وَمَهْمَا بَلَغَتْ مِنَ الانْحِطَاطِ وَالفَسَادِ وَالإِفْسَادِ، وَالتَّجَبُّرِ وَالعِنَادِ، فَإِنَّ فِيهَا خَيْرَاً قَدْ لَا نَرَاهُ بِأَبْصَارِنَا مِنَ الوَهْلَةِ الأُولَى، وَلَكِنْ بِشَيْءٍ مِنَ الأَخْلَاقِ وَالوُدِّ وَالعِنَايَةِ بِهِمْ سَوْفَ نَرَى العَجَبَ العُجَابَ.

يَا عِبَادَ اللهِ: كَمْ أَجْرَمْنَا في حَقِّ شَبَابِنَا، وَخَاصَّةً عِنْدَمَا حَكَمْنَا عَلَيْهِمْ بِالفِسْقِ وَالفُجُورِ وَالطُّغْيَانِ مِنَ الْوَهْلَةِ الأُولَى؟

أَيْنَ نَحْنُ مِنْ أَخْلَاقِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في تَعَامُلِهِ مَعَ الآخَرِينَ وَخَاصَّةً العُصَاةَ المُذْنِبِينَ؟ هَذَا سَيِّدُنَا عَمْرُو بْنُ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ عَنْ نَفْسِهِ فَيَقُولُ ـ قَبْلَ إِسْلَامِهِ ـ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضَاً لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنِّي، وَلَا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ، فَقَتَلْتُهُ. رواه الإمام مسلم.

وَلَكِنْ بِنَظْرَةٍ حَانِيَةٍ مِنْ الحَبِيبِ الرَّؤُوفِ الرَّحِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ مِنْ صَاحِبِ الخُلُقِ العَظِيمِ، تَحَوَّلَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ تَحَوُّلَاً يُذْهِلُ البَصَرَ، بَعْدَ أَنْ عَرَفَ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

يَقُولُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ بَعْدَ إِسْلَامِهِ ـ: وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالَاً لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ. رواه الإمام مسلم.

﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنَاً﴾:

يَا عِبَادَ اللهِ: شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرٌ لِتَدْرِيبِ النَّفْسِ عَلَى الأَخْلَاقِ المَرْضِيَّةِ، وَلِمُجَاهَدَتِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى حُسْنِ التَّعَامُلِ مَعَ النَّاسِ قَوْلَاً وَعَمَلَاً.

لَقَدْ ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَظَلَمْنَا الآخَرِينَ عِنْدَمَا حَقَدْنَا عَلَيْهِمْ، وَلَمْ نُحْسِنِ القَوْلَ مَعَهُمْ وَلَا الفِعْلَ.

يَا عِبَادَ اللهِ: أَلَمْ يَقُلْ لَنَا مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنَاً﴾؟ أَلَمْ يَقُلْ لَنَا مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوَّاً مُبِينَاً﴾؟ لَقَدْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنَنَا، لِأَنَّا مَا قُلْنَا القَوْلَ الحَسَنَ، فَضْلَاً عَنْ قَوْلِ أَحْسَنِ الحَسَنِ.

أَيْنَ نَحْنُ مِنْ قَوْلِ القَوْلِ الحَسَنِ امْتِثَالَاً لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنَاً﴾؟ فَضْلَاً عَنْ قَوْلِ أَحْسَنِ الحَسَنِ امْتِثَالَاً لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾؟

«فَلَا تَسُبُّوا أَبَاهُ»:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ القَوْلَ الحَسَنَ، وَأَحْسَنَ الحَسَنِ، وَخَاصَّةً مِنَ الصَّائِمِ القَائِمِ المُلْتَزِمِ في الظَّاهِرِ يَصْنَعُ الأَعَاجِيبَ في نُفُوسِ الآخَرِينَ؛ قَدْ نُخْطِئُ كَثِيرَاً إِذَا اسْتَكْبَرْنَا بِطَاعَاتِنَا عَلَى أَهْلِ المَعَاصِي، وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ: رُبَّ مَعْصِيَةٍ أَوْرَثَتْ ذُلَّاً وَانْكِسَارَاً، خَيْرٌ مِنْ طَاعَةٍ أَوْرَثَتْ عِزَّاً وَاسْتِكْبَارَاً.

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَنْظُرْ إلى القَوْلِ الحَسَنِ، بَلْ إلى أَحْسَنِ الحَسَنِ في القَوْلِ كَيْفَ يُحَوِّلُ القُلُوبَ؛ هَذَا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ الذي وَرِثَ العَدَاوَةَ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبِيهِ، وَالذي قَاتَلَ المُسْلِمِينَ في كُلِّ مَوْطِنٍ مِنَ المَوَاطِنِ، وَالذي تَصَدَّى لَهُمْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، ثُمَّ فَرَّ إلى اليَمَنِ، بَعْدَ أَنْ أَهْدَرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ دَمَهُ؛ فَتَأْتِي زَوْجَتُهُ أُمُّ حَكِيمٍ بَعْدَ إِسْلَامِهَا إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَطْلُبُ مِنْهُ الأَمَانَ لِزَوْجِهَا.

فَيَأْتِي الجَوَابُ مِنْ صَاحِبِ الخُلُقِ العَظِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ آمِنٌ» /كذا في مغازي الواقدي.

ثُمَّ يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ: «يَأْتِيَكُمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ مُؤْمِنَاً مُهَاجِرَاً، فَلَا تَسُبُّوا أَبَاهُ، فَإِنَّ سَبَّ المَيِّتِ يُؤْذِي الْحَيَّ، وَلَا يَبْلُغُ المَيِّتَ» رواه الحاكم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَيَأْتِي عِكْرِمَةُ، لِيَقِفَ أَمَامَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صَاحِبِ الخُلُقِ الحَسَنِ، وَالقَوْلِ الحَسَنِ، بَلْ أَحْسَنِ الحَسَنِ؛ يَقُولُ عِكْرِمَةُ: لَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ هَذِهِ أَخْبَرَتْنِي أَنَّكَ أَمَّنْتَنِي.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ آمِنٌ».

فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْتَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَأَنْتَ أَبَرُّ النَّاسِ، وَأَصْدَقُ النَّاسِ، وَأَوْفَى النَّاسِ.

يَقُولُ عِكْرِمَةُ: أَقُولُ ذَلِكَ وَإِنِّي لَمُطَأْطِئٌ رَأْسِي اسْتِحْيَاءً مِنْهُ.

ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اسْتَغْفِرْ لِي كُلَّ عَدَاوَةٍ عَادَيْتُكَهَا، أَوْ مَوْكِبٍ أَوْضَعْتُ فِيهِ أُرِيدُ فِيهِ إِظْهَارَ الشِّرْكِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمُ اغْفِرْ لِعِكْرِمَةَ كُلَّ عَدَاوَةٍ عَادَانِيهَا، أَوْ مَوْكِبٍ أَوْضَعَ فِيهِ يُرِيدُ أَنْ يُصَدَّ عَنْ سَبِيلِكَ».

فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مُرْنِي بِخَيْرِ مَا تَعْلَمُ فَأُعَلِّمُهُ.

قَالَ: «قُلْ: أَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَتُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ».

ثُمَّ قَالَ عِكْرِمَةُ: أَمَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، لَا أَدَعُ نَفَقَةً كُنْتُ أَنْفَقْتُهَا فِي الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِلَّا أَنْفَقْتُ ضِعْفَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلَا قَاتَلْتُ قِتَالَاً فِي الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِلَّا أَبْلَيْتُ ضِعْفَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ. رواه الحاكم عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: أَيْنَ أَثَرُ الصَّوْمِ في أَخلَاقِنَا؟ أَيْنَ أَثَرُ الصَّوْمِ في تَعَامُلِنَا مَعَ نِسَائِنَا، وَأَبْنَائِنَا، ومَنْ حَوْلَنَا؟ لِمَاذَا نَحْنُ مُتَفَكِّكُونَ؟ الجَوَابُ عَلَى ذَلِكَ: لِأَنَّا فَقَدْنَا القَوْلَ الحَسَنَ فَضْلَاً عَن أَحْسَنِ الحَسَنِ.

فَهَلْ جَعَلْنَا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ دَوْرَةً تَدْرِيبِيَّةً لَنَا لِتَحْسِينِ أَخْلَاقِنَا، وَلِإِعْطَاءِ الصُّورَةِ الحَسَنَةِ عَنْ عِبَادَاتِنَا؟

لَنْجَعَل شِعَارَنَا في شَهْرِ رَمَضَانَ: إِنِّي صَائِمٌ.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَحْسَنَ الأَخْلَاقِ وَالأَعْمَالِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 14/ رمضان /1438هـ، الموافق: 9/ حزيران / 2017م