535ـ خطبة الجمعة: الغفلة أوقعتنا في الذنوب

 

535ـ خطبة الجمعة: الغفلة أوقعتنا في الذنوب

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: أَجَارَنَا اللهُ تعالى وَإِيَّاكُمْ مِنَ الغَفْلَةِ وَأَهْلِ الغَفْلَةِ، الذينَ قَالَ فِيهِمْ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾.

هُنَاكَ شَرِيحَةٌ مِنَ النَّاسِ إِذَا ذُكِّرُوا بِاللهِ تعالى، وَخُوِّفُوا بِعَذَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَخُوطِبُوا بِالتَّذَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ لِآيَاتِ اللهِ تعالى، وَكَلَامِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَالذي فِيهِ الاسْتِعْدَادُ قَبلَ المَوْتِ، وَالاسْتِدْرَاكُ قَبْلَ الفَوْتِ، لَا تَتَحَرَّكُ فِيهِمُ المَشَاعِرُ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ غَفْلَتِهِمْ عَنِ اللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَبِسَبَبِ تَعَلُّقِهِمْ وَحُبِّهِمْ لِهَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ التي لَا تَدُومُ لِأَحَدٍ، وَلَو دَامَتْ لِأَحَدٍ مَا دَامَ هُوَ لَهَا.

يَقُولُ سَيِّدُنَا الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَاللهِ لَبَلَغَ مِنْ أَحَدِهِمْ بِدُنْيَاهُ أَنَّهُ يُقَلِّبُ الدِّرْهَمَ عَلَى ظُفْرِهِ فَيُخْبِرُكَ بِوَزْنِهِ، وَمَا يُحْسِنُ أَنْ يُصَلِّيَ. اهـ.

أَجَارَنَا اللهُ تعالى وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ قَالَ اللهُ تعالى فِيهِمْ: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرَاً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾. يَعْلَمُونَ كُلَّ شَيْءٍ عَنْ دُنْيَاهُمْ، وَلَا يَعْلَمُونَ شَيْئَاً عَنْ آخِرَتِهِمُ التي هِيَ مَآلُهُمْ.

نَحْنُ في غَفْلَةٍ عَظِيمَةٍ:

يَا عِبَادَ اللهِ: نَحْنُ في غَفْلَةٍ عَظِيمَةٍ عَنِ الآخِرَةِ، مَعَ أَنَّ الحِسَابَ قَرِيبٌ ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾. وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

فَـيَـا سَاهِيَاً فِي غَـمْرَةِ الجَهْلِ وَالْهَوَى   ***   صَرِيْعَ الأَمَانِي عَنْ قَرِيبٍ سَتَنْدَمُ

أَفِقْ قَدْ دَنَا الوَقْتُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ    ***   سِـوَى جَـنَّةٍ أَوْ حَـرِّ نَـارٍ تَضَرَّمُ

نَحْنُ في غَفْلَةٍ عَظِيمَةٍ عَنْ يَوْمِ الحَسْرَةِ الذي قَالَ اللهُ تعالى عَنْهُ: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.

نَحْنُ في غَفْلَةٍ عَظِيمَةٍ عَنْ هَذَا اليَوْمِ الذي قَالَ عَنْهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِالمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا المَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِي: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: وهَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا المَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ».

ثُمَّ قَرَأَ: «﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ﴾. وَهَؤُلَاءِ فِي غَفْلَةٍ أَهْلُ الدُّنْيَا ﴿وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾» رواه الإمام البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

وَأَعْظَمُ دَلِيلٍ على غَفْلَتِنَا عَنِ الحِسَابِ وَيَوْمِ الحَسْرَةِ هُوَ تَعَلُّقُنَا بِالدُّنْيَا، حَتَّى صَارَتْ هَمَّنَا الأَكْبَرَ، وَشُغْلَنَا الشَّاغِلَ، نُسَرُّ لَهَا إِذَا أَقْبَلَتْ، وَنَحْزَنُ عَلَيْهَا إِذَا أَدْبَرَتْ؛ أَمَّا الآخِرَةُ فلَا تُحْزِنُنَا وَلَا تُفْرِحُنَا إِنْ أَطَعْنَا وَإِنْ عَصَيْنَا، إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ تعالى.

يَقُولُ سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: مَا انْتَفَعْتُ بِكَلَامِ أَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلَّا بِكِتَابٍ كَتَبَهُ إلَيَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:

أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ المَرْءَ يَسُوءُهُ فَوْتُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيُدْرِكَهُ، وَيَسُرُّهُ دَرْكُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ، فَلْيَكُنْ سُرُورُك بِمَا نِلْتَ مِنْ أَمْرِ آخِرَتِك، وَلْيَكُنْ أَسَفُكَ عَلَى مَا فَاتَكَ مِنْهَا، وَمَا نِلْتَ مِنْ دُنْيَاكَ فَلَا تُكْثِرَنَّ بِهِ فَرَحَاً، وَمَا فَاتَكَ مِنْهَا فَلَا تَأْسَ عَلَيْهِ جَزَعَاً؛ وَلْيَكُنْ هَمُّكَ فِيمَا بَعْدَ المَوْتِ. اهـ. /كذا في صفة الصفوة.

الغَفْلَةُ أَوْقَعَتْنَا في الذُّنُوبِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: غَفْلَتُنَا عَنِ اللهِ تعالى وَعَنِ اليَوْمِ الآخِرِ أَوْقَعَتْنَا في الذُّنُوبِ وَالمَعَاصِي، وَأَوْقَعَتِ الكَثِيرَ في الكَبَائِرِ، فَجَمَعُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ المَصَائِبَ تِلْوَ المَصَائِبَ، وَالفِتَنَ مَعَ الفِتَنِ، وَلَا يَدْرُونَ سُوءَ العَاقِبَةِ، وَلَا يَدْرُونَ سُوءَ مَا جَنَتْ أَيْدِيهِمْ، وَلَا مَا نَطَقَتْ بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ، وَلَا مَا فَعَلَتْهُ جَوَارِحُهُمْ.

الغَفْلَةُ عَنِ اللهِ تعالى أَوْقَعَتِ الكَثِيرَ في الآثَامِ، حَتَّى أَصْبَحَ أَحَدُهُمْ لَا يُبَالِي أَكَانَ مُطِيعَاً أَمْ عَاصِيَاً، وَلَا يُفَكِّرُ أَحَدُهُمْ في العَاقِبَةِ، وَلَا في الخَاتِمَةِ، وَلَا في النَّتِيجَةِ، وَيَرَى أَحَدُهُمُ الكَبِيرَةَ وَكَأَنَّهَا لَا شَيْءَ.

يَقُولُ سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ؛ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا، بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ. رواه الإمام البخاري.

وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ، مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسَاً يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفَاً فِي النَّارِ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: أَعْظَمُ المَصَائِبِ أَنْ لَا يَعْلَمَ الغَافِلُ أَنَّهُ في غَفْلَةٍ عَنِ اللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ، أَعْظَمُ المَصَائِبِ أَنْ يَنْسَى العَبْدُ رَبَّهُ، قَالَ تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾. أَعْظَمُ المَصَائِبِ أَنْ يَنْسَى العَبْدُ أَنَّهُ في نِسْيَانٍ، وَهَذَا هُوَ البَلَاءُ المُرَكَّبُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: مَا أَعْظَمَ الغَفْلَةَ عَنِ اللهِ تعالى وَعَنِ اليَوْمِ الآخِرِ، مَا أَعْظَمَ إِعْرَاضَ المُعْرِضِ عَنِ اللهِ تعالى، مَا أَعْظَمَ الإِصْرَارَ على الذُّنُوبِ وَالمَعَاصِي، مَا أَعْظَمَ الغُرُورَ، مَا أَعْظَمَ الأَمْنَ مِنْ مَكْرِ اللهِ تعالى ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتَاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾.

روى الإمام أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ».

ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾.

اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنَا مِنَ الغَافِلِينَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 11/ جمادى الثانية /1438هـ، الموافق: 10/آذار / 2017م