96ـ مع الصحابة وآل البيت: فما عطشت بعدها

 

مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

96ـ فما عطشت بعدها

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَا أَحَدٌ عَرَفَ قَدْرَ المَرْأَةِ مِثْلُ الإِسْلَامِ، لَقَدْ كَانَتِ المَرْأَةُ في الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى مَظْلُومَةً بِنْتَاً، وَمَظْلُومَةً زَوْجَةً، وَمَظْلُومَةً أُخْتَاً، وَمَظْلُومَةً أُمَّاً؛ وَكَذَلِكَ اليَوْمَ المَرْأَةُ مَظْلُومَةٌ في جَمِيعِ مَرَاحِلِ حَيَاتِهَا، وَلَا يُرْفَعُ الظُّلْمُ عَنْهَا إِلَّا مِنْ خِلَالِ تَعَالِيمِ الإِسْلَامِ، الذي كَرَّمَهَا بِنْتَاً، وَكَرَّمَهَا زَوْجَةً، وَكَرَّمَهَا أُخْتَاً، وَكَرَّمَهَا أُمَّاً.

الإِسْلَامُ هُوَ الذي رَفَعَ الظُّلْمَ عَنِ البَشَرِ، وَأَعْطَى كُلَّ إِنْسَانٍ حَقَّهُ، وَوَضَعَ المَرْأَةَ في مَكَانِهَا الحَقِيقِيِّ، وَكَرَّمَهَا اللهُ تعالى تَكْرِيمَاً مَا بَعْدَهُ تَكْرِيمٌ، وَأَعْطَاهَا حَقَّهَا كَامِلَاً، وَضَرَبَ بِهَا المَثَلَ في القُرْآنِ العَظِيمِ، قَالَ تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلَاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتَاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾.

لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تعالى السَّيِّدَةَ آسِيَةَ زَوْجَةَ فِرْعَوْنَ، وَذَكَرَ السَّيِّدَةَ مَرْيَمَ أُمَّ سَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَكَرَ أَنَّهَا صِدِّيقَةٌ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللهُ تعالى اسْمَ صِدِّيقٍ في القُرْآنِ سِوَى الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَّا السَّيِّدَةَ مَرْيَمَ، فَقَالَ تعالى: ﴿مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾.

فَمَا عَطِشْتُ بَعْدُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ حَفِظَ التَّارِيخُ لَنَا صُوَرَاً رَائِعَةً، وَمَوَاقِفَ مُدْهِشَةً للمَرْأَةِ المُسْلِمَةِ الصَّابِرَةِ المُحْتَسِبَةِ، حَتَّى تَتَعَلَّمُ المَرْأَةُ المُسْلِمَةُ في سَائِرِ العُصُورِ، بِأَنَّ اللهَ تعالى لَا يَتَخَلَّى عَنْ عَبْدِهِ المُؤْمِنِ رَجُلَاً كَانَ أَو امْرَأَةً.

جَاءَ في السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ لابْنِ كَثِيرٍ: لَمَّا هَاجَرَتْ أُمُّ أَيْمَنَ أَمْسَتْ بِالمُنْصَرَفِ دُونَ الرَّوْحَاءِ وَهِيَ صَائِمَةٌ، فَأَصَابَهَا عَطَشٌ شَدِيدٌ حَتَّى جَهَدَهَا، فَدُلِّيَ عَلَيْهَا دَلْوٌ مِنَ السَّمَاءِ بِرِشَاءٍ أَبْيَضَ فِيهِ مَاءٌ.

قَالَتْ: فَشَرِبْتُ فَمَا أَصَابَنِي عَطَشٌ بَعْدُ، وَقَدْ تَعَرَّضْتُ العَطَشَ بِالصَّوْمِ فِي الْهَوَاجِرِ فَمَا عَطِشْتُ بَعْدُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنِ الذي الْتَجَأَ إلى اللهِ تعالى وَتَخَلَّى عَنْهُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ؟ مَنِ الذي دَعَاهُ وَلَمْ يُجِبْهُ؟ هَذِهِ السَّيِّدَةُ الجَلِيلَةُ دَعَتِ اللهَ تعالى بِصِدْقٍ فَاسْتَجَابَ اللهُ تعالى دُعَاءَهَا، وَأَنْزَلَ لَهَا دَلْوَاً مِنَ السَّمَاءِ فَشَرِبَتْ مِنْهُ، ثُمَّ عَادَ الدَّلْوُ، فَمَا ظَمِئَتْ في حَيَاتِهَا كُلِّهَا، وَقَدْ عَاشَتْ بَعْدَ هَذِهِ الشَّرْبَةِ مَا يُقَارِبُ أَرْبَعِينَ عَامَاً.

رَبُّنَا جَلَّ جَلَالُهُ يَخْرِقُ العَوَائِدَ لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَيُجْرِي لَهُمُ الكَرَامَاتِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِعُلُوِّ شَأْنِهِمْ عِنْدَهُ تعالى، وَذَلِكَ بِبَرَكَةِ الاقْتِدَاءِ وَالاتِّبَاعِ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَتْ بَرَكَةُ الحَبَشِيَّةُ أُمُّ أَيْمَنَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا امْرَأَةً مُؤْمِنَةً، هَاجَرَتْ إلى اللهِ تعالى وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَتَحَمَّلَتْ مَسْؤُولِيَّتَهَا كَامِلَةً تُجَاهَ إِعْزَازِ دِينِهَا وَالدِّفَاعِ عَنْهُ، سُلُوكَاً وَعَمَلَاً.

لَقَدْ كَانَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا مِثَالَ المَرْأَةِ المُؤْمِنَةِ الصَّالِحَةِ؛ في يَوْمِ أُحُدٍ شَاهَدَتْ فُلُولَ المُسْلِمِينَ يُرِيدُونَ دُخُولَ المَدِينَةِ، فَأَخَذَتْ تَحْثُو التُّرَابَ في وُجُوهِهِمْ وَتَقُولُ لِبَعْضِهِمْ: هَاكَ المِغْزَلَ، وَهَلُمَّ سَيْفَكَ.

ثُمَّ سَارَعَتْ إلى سَاحَةِ القِتَالِ، فَأَخَذَتْ تَسْقِي الجَرْحَى، فَرَمَاهَا حِبَّانُ بْنُ العَرَقَةِ بِسَهْمٍ، فَوَقَعَتْ وَتَكَشَّفَتْ، فَأُغْرِقَ عَدُوُّ اللهِ في الضَّحِكِ.

فَشَقَّ ذَلِكَ على رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَدَفَعَ إلى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ سَهْمَاً لَا نَصْلَ لَهُ، وَقَالَ: «ارْمِ بِهِ».

فَرَمَى بِهِ سَعْدٌ، فَوَقَعَ السَّهْمُ في نَحْرِ حِبَّانَ، فَوَقَعَ مُسْتَلْقِيَاً حَتَّى تَكَشَّفَ.

فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ قَالَ: «اسْتَقَادَ لَهَا سَعْدٌ، أَجَابَ اللهُ دَعْوَتَهُ».

وَقَدْ دَعَا لَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ لِسَعْدٍ، اللَّهُمَّ سَدِّدْ لِسَعْدٍ رَمَيْتَهُ، إِيهَاً سَعْدُ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» رواه الحاكم عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ ثَمَرَاتِ الإِيمَانِ بِاللهِ تعالى أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُدَافِعُ عَنْ أَهْلِ الإِيمَانِ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾. وَحَاشَا لِرَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَتَخَلَّى عَنْ عَبْدِهِ المُؤْمِنِ الذي تَحَقَّقَ بِإِيمَانِهِ سُلُوكَاً وَعَمَلَاً.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَتْ شَخْصِيَّةُ أُمِّ أَيْمَنَ بَرَكَةَ الحَبَشِيَّةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا شَخْصِيَّةً قَوِيَّةً، وَكَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَحْتَرِمُهَا أَشَدَّ الاحْتِرَامِ، وَكَانَ حَرِيصَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ لَا تَغْضَبَ، وَأَنْ لَا يُغْضِبَهَا أَحَدٌ.

روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ جَعَلَ لَهُ ـ قَالَ عَفَّانُ: يَجْعَلُ لَهُ ـ مِنْ مَالِهِ النَّخَلَاتِ (أَيْ: ثِمَارَهَا هِبَةً لِيَصْرِفَهَا في نَوَائِبَهَا مَعَ بَقَاءِ أُصُولِهَا على مِلْكِ الوَاهِبِ) أَوْ كَمَا شَاءَ اللهُ، حَتَّى فُتِحَتْ عَلَيْهِ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ؛ فَجَعَلَ يَرُدُّ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنَّ أَهْلِي أَمَرُونِي أَنْ آتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْأَلَهُ الَّذِي كَانَ أَهْلُهُ أَعْطَوْهُ، أَوْ بَعْضَهُ.

وَكَانَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَعْطَاهُ أُمَّ أَيْمَنَ، أَوْ كَمَا شَاءَ اللهُ.

قَالَ: فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِيهِنَّ، فَجَاءَتْ أُمُّ أَيْمَنَ، فَجَعَلَتِ الثَّوْبَ فِي عُنُقِي، وَجَعَلَتْ تَقُولُ: كَلَّا وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَا يُعْطِيكَهُنَّ وَقَدْ أَعْطَانِيهِنَّ ـ أَوْ كَمَا قَالَتْ ـ.

فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَكِ كَذَا وَكَذَا».

وَتَقُولُ: كَلَّا وَاللهِ.

قَالَ: وَيَقُولُ: «لَكِ كَذَا وَكَذَا».

قَالَ: حَتَّى أَعْطَاهَا، فَحَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: عَشْرَ أَمْثَالِهَا، أَوْ قَالَ: قَرِيبَاً مِنْ عَشْرَةِ أَمْثَالِهَا ـ أَوْ كَمَا قَالَ ـ.

وفي رِوَايَةٍ للشَّيْخَيْنِ: فَرَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُمِّهِ ـ يَعْنِي أُمَّ سُلَيْمٍ ـ عِذَاقَهَا، وَأَعْطَى رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أُمَّ أَيْمَنَ مَكَانَهُنَّ مِنْ حَائِطِهِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّهُ البِرُّ مِنْ سَيِّدِ الأَوْفِيَاءِ لِمَنْ كَانَتْ في مَقَامِ أُمِّهِ، وَإِنَّهُ الوَفَاءُ لِمَنْ رَبَّتْهُ صَغِيرَاً، وَرَعَتْهُ كَبِيرَاً، وَجَاهَدَتْ مَعَهُ طَوِيلَاً؛ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، وَجَزَى اللهُ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي عَلَّمَنَا كَيْفَ يَكُونُ الوَفَاءُ خَيْرَ الجَزَاءِ. آمين.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُخَلِّقَنَا بِأَخْلَاقِهِ الشَّرِيفَةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 17/ جمادى الثانية /1438هـ، الموافق: 16/ آذار / 2017م