537ـ خطبة الجمعة: كم سيتحسر الظالم؟

 

537ـ خطبة الجمعة: كم سيتحسر الظالم؟

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: كَمْ نَحْنُ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ لِأَنْ نَرْتَبِطَ بِيَوْمِ القِيَامَةِ، لَعَلَّ هَذَا الارْتِبَاطَ بِيَوْمِ القِيَامَةِ يُصَحِّحُ لَنَا سَيْرَنَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَخَاصَّةً في هَذِهِ الآوِنَةِ، حَيْثُ انْتَشَرَتِ الكَبَائِرُ وَعَلَى رَأْسِهَا سَفْكُ الدِّمَاءِ، وَسَلْبُ الأَمْوَالِ، وَتَرْوِيعُ الآمِنِينَ.

يَا أُمَّةَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، اسْمَعِي إلى مَا يَرْوِيهِ الإمام الحاكم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ إِذْ رَأَيْنَاهُ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ ثَنَايَاهُ.

فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟

قَالَ: «رَجُلَانِ مِنْ أُمَّتِي جَثَيَا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعِزَّةِ؛ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَبِّ، خُذْ لِي مَظْلِمَتِي مِنْ أَخِي.

فَقَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلطَّالِبِ: فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِأَخِيكِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيْءٌ؟

قَالَ: يَا رَبِّ، فَلْيَحْمِلْ مِنْ أَوْزَارِي».

قَالَ: وَفَاضَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالْبُكَاءِ.

ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ ذَاكَ الْيَوْمَ عَظِيمٌ، يَحْتَاجُ النَّاسُ أَنْ يُحْمَلَ عَنْهُمْ مِنْ أَوْزَارِهِمْ».

يَا عِبَادَ اللهِ: قُولُوا لِمَنْ كَانَتْ ذِمَّتُهُ مَشْغُولَةً بِحُقُوقِ الآخَرِينَ مِنَ الأُمُورِ المَادِّيَّة، أَو الأُمُورِ المَعْنَوِيَّةِ: أَعْطِ صَاحِبَ الحَقِّ حَقَّهُ، وَلَا تُمَاطِلْ، وَلَا تُسَوِّفْ، فَإِنَّ قِيَامَ السَّاعَةِ قَرِيبٌ، لِأَنَّ العَبْدَ إِذَا مَاتَ قَامَتْ قِيَامَتُهُ.

يَا مَنْ أَكَلَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ، يَا مَنْ ظَلَمَ النَّاسَ، يَا مَنْ قَهَرَ النَّاسَ، يَا مَنْ أَخَافَ النَّاسَ، يَا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ، يَا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الوَلَدِ وَوَالِدَيْهِ، يَا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الأَزْوَاجِ، يَا مَنْ عَاثَ في الأَرْضِ فَسَادَاً، يَا مَنْ كَانَ سَبَبَاً في إِزْهَاقِ الأَرْوَاحِ، يَا مَنْ كَانَ سَبَبَاً في نُزُوحِ النَّازِحِينَ، يَا مَنْ كَانَ سَبَبَاً في تَيْتِيمِ الأَطْفَالِ، وَتَرْمِيلِ النِّسَاءِ، يَا مَنْ كَانَ سَبَبَاً في بُكَاءِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، يَا مَنْ كَانَ سَبَبَاً في إِدْخَالِ الهَمِّ وَالحُزْنِ وَالقَلَقِ وَالاضْطِرَابِ في حَيَاةِ الأُمَّةِ ، يَكْفِيكَ حَدِيثُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا وُضِعَتِ الجِنَازَةُ، فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ لِأَهْلِهَا: يَا وَيْلَهَا، أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا؟».

يَا عَبْدَ اللهِ: سَوْفَ تُحْمَلُ جِنَازَتُكَ، فَإِمَّا أَن تُقَدَّمُ إلى رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ، وَإِمَّا إلى حُفْرَةٍ مِنْ حُفَرِ النَّارِ.

كَمْ سَيَتَحَسَّرُ الظَّالِمُ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: كَمْ سَيَتَحَسَّرُ الظَّالِمُ؟ كَمْ سَيَتَحَسَّرُ مَنْ شُغِلَتْ ذِمَّتُهُ بِحُقُوقِ العِبَادِ؟ كَيْفَ لَا يَتَحَسَّرُ وَالمَوْتُ مُحِيطٌ بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ؟ ﴿قُلْ إِنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾.

تَصَوَّرُوا هَذَا العَبْدَ الظَّالِمَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ في حُفْرَتِهِ وَحِيدٌ فَرِيدٌ، انْقَطَعَ عَنْهُ الأَهْلُ وَالوَلَدُ، وَانْصَرَفُوا عَنْهُ وَهُوَ في قَبْرِهِ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، كَمَا قَالَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ المَيِّتَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، إِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ إِذَا انْصَرَفُوا» رواه الإمام مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

لَقَدْ غَادَرَهُ الجَمِيعُ وَتَرَكُوهُ في هَذِهِ الحُفْرَةِ، تَرَكُوهُ في القَبْرِ الذي هُوَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الآخِرَةِ، تَرَكُوهُ بِدُونِ زَادٍ، تَرَكُوهُ وَقَدْ حَمَلَ ظُلْمَاً.

مَا هَذِهِ الرُّوحُ الخَبِيثَةُ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ حَدَّثَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا العَبْدِ الفَاجِرِ الذي عَاثَ في الأَرْضِ فَسَادَاً عِنْدَمَا يَقَعُ في سِيَاقِ المَوْتِ، كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ، روى الحاكم عَنِ الْبَرَاءِ  بْنِ  عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَأَمَّا الْفَاجِرُ، فَإِذَا كَانَ فِي قُبُلٍ مِنَ الْآخِرَةِ وَانْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا، أَتَاهُ مَلَكُ المَوْتِ، فَيَقْعُدُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَيَنْزِلُ المَلَائِكَةُ سُودُ الْوُجُوهِ، مَعَهُمُ المُسُوحُ (هُوَ اللِّبَاسُ الْخَشِنُ) فَيَقْعُدُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، فَيَقُولُ مَلَكُ المَوْتِ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللهِ وَغَضِبٍ.

فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ، فَيَنْقَطِعُ مَعَهَا الْعُرُوقُ وَالْعَصَبُ كَمَا يُسْتَخْرَجُ الصُّوفُ المَبْلُولُ بِالسَّفُودِ ذِي الشُّعَبِ (أَيِ: الشَّوْكُ أَوِ الْحَدِيدُ الَّتِي يُشْوَى بِهَا اللَّحْمُ ـ شَبَّهَ نَزْعَ رُوحِ الْكَافِرِ مِنْ أَقْصَى عُرُوقِهِ ـ).

فَيَقُومُونَ إِلَيْهِ فَلَا يَدَعُونَهُ فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَلَا يَمُرُّونَ عَلَى جُنْدٍ مِنَ المَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذِهِ الرُّوحُ الْخَبِيثَةُ؟

قَالَ: فَيَقُولُونَ: فُلَانٌ؛ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ.

قَالَ: فَإِذَا انْتُهِيَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ غُلِّقَتْ دُونَهُ أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ.

قَالَ: وَيُقَالُ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ.

قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ: أَعِيدُوا عَبْدِي إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنِّي وَعَدْتُهُمْ أَنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى.

قَالَ: فَيَرْمَى بِرُوحِهِ حَتَّى تَقَعَ فِي جَسَدِهِ.

قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾.

قَالَ: فَتَأْتِيهِ المَلَائِكَةُ فَيَقُولُونَ: مَنْ رَبُّكَ؟

قَالَ: فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي.

فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ قَدْ كَذَبَ، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ النَّارِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ النَّارِ، وَأَرُوهُ مَنْزِلَهُ مِنَ النَّارِ.

قَالَ: فَيَضِيقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ.

قَالَ: وَيَأْتِيهِ رِيحُهَا وَحَرُّهَا.

قَالَ: فَيُفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ، وَيَمْثُلُ لَهُ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ.

فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُؤْكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ.

قَالَ: فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يُبَشِّرُ بِالشَّرِّ.

قَالَ: فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ.

قَالَ: وَهُوَ يَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: الحَمْدُ للهِ تعالى عَلَى نِعْمَةِ المَوْتِ الذي بِهِ قَهَرَ اللهُ تعالى جَمِيعَ خَلْقِهِ، الحَمْدُ للهِ تعالى القَائِلِ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾.

المَوْتُ حَتْمٌ لَازِمٌ، لَا مَحِيصَ عَنْهُ، وَلَا مَفَرَّ مِنْهُ، لَا يَنْجُو مِنْهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا مَلِكٌ وَلَو حَكَمَ النَّاسَ جَمِيعَاً، أَيْنَ عَادٌ وَثَمُودُ؟ أَيْنَ فِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ؟ أَيْنَ الأَكَاسِرَةُ؟ أَيْنَ القَيَاصِرَةُ؟ أَيْنَ الجَبَابِرَةُ؟ أَيْنَ الذي قَالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ؟ أَيْنَ الذي قَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى؟

لَقَدْ خَطَفَهُمُ المَوْتُ، وَأَدْخَلَهُمْ عَالَمَ البَرْزَخِ، يَنْتَظِرُونَ قِيَامَ السَّاعَةِ للوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَالسَّعِيدُ مَنْ قِيلَ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَدَاً مِنَ الْجَنَّةِ؛ وَالشَّقِيُّ مَنْ قِيلَ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ الجَنَّةِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَدَاً مِنَ النَّارِ. اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنَا مِنَ النَّادِمِينَ عِنْدَ سَكَرَاتِ المَوْتِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 25/ جمادى الثانية /1438هـ، الموافق: 24/آذار / 2017م