538ـ خطبة الجمعة: المصيبة الكبرى

 

538ـ خطبة الجمعة: المصيبة الكبرى

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: لِأَهَمِّيَّةِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَلِخُطُورَةِ ذَاكَ اليَوْمِ، لَو نَظَرْنَا في كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَوَجَدْنَا في كُلِّ صَفْحَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ تعالى ذِكْرَاً لِيَوْمِ القِيَامَةِ، صَرَاحَةً أَو إِشَارَةً، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِخُطُورَةِ ذَاكَ اليَوْمِ عَلَى الخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ، فَإِذَا غَابَ يَوْمُ القِيَامَةِ عَنْ نَاظِرِ الإِنْسَانِ عَاثَ في الأَرْضِ فَسَادَاً، وَمَنِ اسْتَحْضَرَ الجَنَّةَ وَالنَّارَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالوُقُوفَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى اسْتَقَامَ عَلَى شَرْعِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَكَمْ نَحْنُ اليَوْمَ في هَذِهِ الآوِنَةِ خَاصَّةً بِحَاجَةٍ إلى مَنْ يُذَكِّرُنَا بِيَوْمِ القِيَامَةِ الذي هُوَ اليَوْمُ المَجْمُوعُ لَهُ النَّاسُ حَيْثُ يَقِفُونَ فِيهِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا في الأَهْوَالِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: يُؤْخَذُ بِيَدِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُنَادِي مُنَادٍ عَلَى رُؤُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ: هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، مَنْ كَانَ لَهُ الْحَقُّ فَلْيَأْتِ إِلَى حَقِّهِ، فَتَفْرَحُ المَرْأَةُ أَنْ يَكُونَ لَهَا الْحَقُّ عَلَى أَبِيهَا، أَوْ أُمِّهَا، أَوْ أَخِيهَا، أَوْ زَوْجِهَا؛ ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ﴾. فَيَغْفِرُ اللهُ مِنْ حَقِّهِ مَا شَاءَ، وَلَا يَغْفِرُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ شَيْئَاً.

فَيَنْصِبُ لِلنَّاسِ فَيَقُولُ: ائْتُوا إِلَى حُقُوقِكُمْ.

فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، فَنِيَتِ الدُّنْيَا فَمِنْ أَيْنَ أُوتِيهِمْ حُقُوقَهُمْ؟.

فَيَقُولُ: خُذُوا مِنْ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ فَأَعْطُوا إِلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ بِقَدْرِ طِلْبَتِهِ، فَإِنْ كَانَ وَلِيَّاً للهِ فَفَضَلَ لَهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ضَاعَفَهَا اللهُ لَهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ بِهَا الْجَنَّةَ؛ ثُمَّ قَرَأَ: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾. وَإِنْ كَانَ عَبْدَاً شَقِيَّاً، قَالَ: يَا رَبِّ، فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، وَبَقِيَ طَالِبُونَ كَثِيرٌ.

قَالَ: خُذُوا مِنْ سَيِّئَاتِهِم فَأَضِيفُوهَا إِلَى سَيِّئَاتِهِ، ثُمَّ صُكُّوا لَهُ صَكَّاً إِلَى النَّارِ. اهـ.

في أَرْضِ المَحْشَرِ لَا يَرْحَمُ أَحَدٌ مِنَ الخَلْقِ أَحَدَاً مِنَ الخَلْقِ، كُلُّ وَاحِدٍ يُطَالِبُ الآخَرَ بِحُقُوقِهِ، كُلُّ وَاحِدٍ يَحْتَاجُ إلى زِيَادَةِ حَسَنَةٍ في حَسَنَاتِهِ؛ العَلَاقَةُ الزَّوْجِيّةُ لَا تَشْفَعُ، وَالعَلَاقَةُ الأَبَوِيَّةُ لَا تَشْفَعُ، لِأَنَّ حُقُوقَ النَّاسِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى المُشَاحَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَدَائِهَا إِنْ في الدُّنْيَا، وَإِنْ في الآخِرَةِ.

المُصِيبَةُ الكُبْرَى:

يَا عِبَادَ اللهِ: يَا مَنْ تَعِيشُونَ هَذِهِ الأَزْمَةَ القَاسِيَةَ، حَيْثُ تَدَاعَتِ الأُمَمُ اليَوْمَ عَلَى أَهْلِ بِلَادِ الشَّامِ؛ اصْبِرُوا صَبْرَاً جَمِيلَاً، وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ : ﴿فَاصْبِرْ صَبْرَاً جَمِيلَاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدَاً * وَنَرَاهُ قَرِيبَاً * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمَاً﴾.

الحَمْدُ للهِ تعالى عَلَى نِعْمَةِ المَوْتِ، وَالحَمْدُ للهِ تعالى عَلَى نِعْمَةِ البَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالحِسَابِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ﴾. الكُلُّ سَوْفَ يَرَى الكُلَّ، وَهُنَاكَ يَرَى المُؤْمِنُونَ المُجْرِمِينَ الذينَ عَاثُوا في الأَرْضِ فَسَادَاً يَوَدُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ عَذَابِ اللهِ تعالى.

يَا عِبَادَ اللهِ: تَدَبَّرُوا جَيِّدَاً قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعَاً ثُمَّ يُنْجِيهِ * كَلَّا﴾.

تَصَوَّرُوا هَذَا المُجْرِمَ الذي عَاثَ في الأَرْضِ فَسَادَاً وَهُوَ في أَرْضِ المَحْشَرِ، وَهُوَ يَتَمَنَّى أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ عَذَابِ اللهِ تعالى، وَيُقَدِّمُ فِدَاءً لَهُ جَمِيعَ بَنِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَكْفِ الأَبْنَاءُ، فَلْيَكُنْ مَعَهُمُ الزَّوْجَةُ وَالإِخْوَةُ وَالأَخَوَاتُ، فَإِنْ لَمْ يَكْفِ ذَلِكَ فَلْيَكُنْ مَعَ الأَبْنَاءِ وَالزَّوْجَةِ وَالإِخْوَةِ وَالأَخَوَاتِ الأُسْرَةُ وَالعَائِلَةُ بِأَكْمَلِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكْفِ ذَلِكَ فَبِمَنْ في الأَرْضِ جَمِيعَاً لِيَكُونُوا جَمِيعَاً في نَارِ جَهَنَّمَ، المُهِمُّ أَنْ يَنْجُوَ هَذَا المُجْرِمُ مِنْ عَذَابِ اللهِ تعالى.

وَلَكِنْ مَا هِيَ النَّتِيجَةُ؟

يَأْتِي الجَوَابُ مِنَ اللهِ تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى﴾. إِنَّهَا المُصِيبَةُ الكُبْرَى، إِنَّهَا مُصِيبَةُ المَصَائِبِ؛ أَجَارَنَا اللهُ تعالى مِنْ ذَلِكَ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: كُلُّ النَّاسِ مَحْشُورُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، الكُلُّ في قَبْضَةِ اللهِ تعالى، لَنْ يَفْلَتَ أَحَدٌ مِنْ قَبْضَتِهِ، وَلَنْ يَغِيبَ أَحَدٌ عَنْ مِيزَانِ اللهِ تعالى، قَالَ تعالى: ﴿ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ * فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَبْكِ عَلَى أَنْفُسِنَا قَبْلَ أَنْ يُبْكَى عَلَيْنَا، لِنُحَاسِبْ أَنْفُسَنَا قَبْلَ أَنْ نُحَاسَبَ، لِنَحْمِلْ أَنْفُسَنَا عَلَى الطَّاعَاتِ قَبْلَ أَنْ نُحْمَلَ عَلَى الرِّقَابِ، لِنَسْتَعِدَّ للمَوْتِ، حَتَّى لَا يَقُولَ أَحَدُنَا: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحَاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾.

يَا مَنْ كُلَّمَا طَالَ عُمُرُهُ زَادَ إِثْمُهُ، يَا مَنْ لَا يُفَكِّرُ إِلَّا في الإِجْرَامِ، يَا مَنْ لَا يَعْتَبِرُ بِمَنْ خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا، كُنْ عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّكَ رَاحِلٌ، طَالَ الزَّمَنُ أَمْ قَصُرَ، اصْطَلِحْ مَعَ اللهِ تعالى، وإِلَّا فَأَنْتَ نَادِمٌ.

اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنَا مِنَ النَّادِمِينَ عِنْدَ سَكَرَاتِ المَوْتِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 3/ رجب /1438هـ، الموافق: 31/ آذار / 2017م