539ـ خطبة الجمعة: من المستريح بعد الموت؟

 

539ـ خطبة الجمعة: من المستريح بعد الموت؟

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: المَوْتُ حَقِيقَةٌ لَا يُمْكِنُ لِإِنْسَانٍ أَنْ يَفِرَّ مِنْهُ، مُؤْمِنَاً كَانَ أَو كَافِرَاً؛ ذِكْرُ المَوْتِ يَرْدَعُ العَاصِي عَنْ عِصْيَانِهِ، ذِكْرُ المُوْتِ يُلَيِّنُ القَلْبَ القَاسِي.

المَوْتُ أَمْرٌ فَظِيعٌ وَأَلِيمٌ، يَفْضَحُ الأَسْرَارَ، وَيَهْتِكُ الأَسْتَارَ، وَيُبْدِي العَوْرَاتِ، وَيُظْهِرُ الـحَسرَاتِ، المَوْتُ مَا نَجَا مِنْهُ أَحَدٌ وَلَنْ يَنْجُوَ، وَلَو نَجَا مِنْهُ أَحَدٌ لَنَجَا مِنْهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ﴾.

المَوْتُ نِعْمَةٌ:

يَا عِبَادَ اللهِ: المَوْتُ للإِنْسَانِ المُؤْمِنِ الصَّالِحِ المُنْضَبِطِ بِضَوَابِطِ الشَّرِيعَةِ نِعْمَةٌ مِنْ نِعَمِ اللهِ تعالى عَلَيْهِ؛ المَوْتُ للإِنْسَانِ المُؤْمِنِ رَاحَةٌ لَهُ، لِمَا رواه الشيخان عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ، فَقَالَ: «مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ».

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا المُسْتَرِيحُ وَالمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟

قَالَ: «العَبْدُ المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللهِ، وَالعَبْدُ الفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ العِبَادُ وَالبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ».

المَوْتُ للإِنْسَانِ المُؤْمِنِ نِعْمَةٌ، لِأَنَّهُ بِهِ يَخْرُجُ مِنْ سِجْنِ الدُّنْيَا التي فِيهَا الفِتَنُ وَالمَصَائِبُ وَالبَلَايَا، روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤْمِنِ وَسَنَتُهُ، فَإِذَا فَارَقَ الدُّنْيَا، فَارَقَ السِّجْنَ وَالسَّنَةَ (أَي الْقَحْط)».

يَا عِبَادَ اللهِ: المَؤْمِنُ يَرَى المَوْتَ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِ اللهِ تعالى عَلَيْهِ، لِذَا لَا يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إلى الدُّنْيَا بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْهَا، روى الإمام مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ لَهَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ، يَسُرُّهَا أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا، وَلَا أَنَّ لَهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، إِلَّا الشَّهِيدُ، فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ، فَيُقْتَلَ فِي الدُّنْيَا لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ».

وَيَقُولُ سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، مَا عَلَى الْأَرْضِ نَفْسٌ إِلَّا المَوْتُ خَيْرٌ لَهَا، إِنْ كَانَ مُؤْمِنَاً فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾. وَإِنْ كَانَ فَاجِرَاً فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمَاً﴾. رواه الحاكم.

المُسْتَرِيحُ بَعْدَ المَوْتِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: السَّعِيدُ المُوَفَّقُ مَنْ كَانَ مَوْتُهُ رَاحَةً لَهُ، وَهَذَا يَكُونُ لِمَن رَضِيَ بِاللهِ تعالى رَبَّاً، وَبِالإِسْلَامِ دِينَاً، وَبِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَبِيَّاً رَسُولَاً.

المَوْتُ يَكُونُ رَاحَةً لِلْعَبْدِ إِذَا كَانَت ذِمَّتُهُ بَرِيْئَةً مِنْ حُقُوقِ العِبَادِ، بَرِيْئَةً مِنْ حُقُوقِ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَسَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ.

المَوْتُ يَكُونُ رَاحَةً لِلْعَبْدِ إِذَا أَمْضَى حَيَاتَهُ في طَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمِنَ النَّاسُ بَوَائِقَهُ، وَ يَكُونُ رَاحَةً لَهُ إِذَا خَلَّفَ وَرَاءَهُ صَدَقَةً جَارِيَةً، أَو عِلْمَاً يُنْتَفَعُ بِهِ، أَو وَلَدَاً صَالِحَاً يَدْعُو لَهُ.

المَوْتُ يَكُونُ رَاحَةً لِلْعَبْدِ إِذَا كَانَ حَافِظَاً لِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَفُؤَادِهِ وَحَامِلَاً هَمَّ الدِّينِ، مُقْبِلَاً عَلَى اللهِ تعالى بِجَنَاحَيِ الخَوْفِ وَالرَّجَاءِ.

المَوْتُ يَكُونُ رَاحَةً لِمَنِ اغْتَنَمَ حَيَاتَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَاغْتَنَمَ شَبَابَهُ في طَاعَةِ اللهِ قَبْلَ هَرَمِهِ، وَاغْتَنَمَ صِحَّتَهُ في طَاعَةِ اللهِ قَبْلَ سَقَمِهِ، وَاغْتَنَمَ فَرَاغَهُ في طَاعَةِ اللهِ قَبْلَ شُغْلِهِ، وَاغْتَنَمَ غِنَاهُ فَصَرَفَهُ في طَاعَةِ اللهِ تعالى قَبْلَ فَقْرِهِ.

المَوْتُ يَكُونُ رَاحَةً لِمَنْ نَشَأَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ تعالى وَشَابَ عَلَيْهَا، لِمَنْ لَازَمَ كِتَابَ اللهِ تعالى آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، لِمَنِ الْتَزَمَ دِينَ اللهِ تعالى ظَاهِرَاً وَبَاطِنَاً، وَتَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: يَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾. فَلْيُفَكِّرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا هَلْ مَوْتُهُ رَاحَةٌ لَهُ أَمْ مِنْهُ، السَّعِيدُ مَنْ كَانَ مَوْتُهُ رَاحَةً لَهُ، وَالشَّقِيُّ مَنْ كَانَ مَوْتُهُ رَاحَةً مِنْهُ؛ وَالكُلُّ مَيِّتٌ، وَعِنْدَ اللهِ تَجْتَمِعُ الخُصُومُ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْ مَوْتَنَا رَاحَةً لَنَا لَا مِنَّا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 10/ رجب /1438هـ، الموافق: 7/ نيسان / 2017م