542ـ خطبة الجمعة: مضى شهر رجب وما أحسنت فيه

 

542ـ خطبة الجمعة: مضى شهر رجب وما أحسنت فيه

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ أَخْرَجَ الإمام أحمد عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ الْأَيَّامَ يَسْرُدُ (يُتَابِعُ) حَتَّى يُقَالَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ الْأَيَّامَ حَتَّى لَا يَكَادَ أَنْ يَصُومَ إِلَّا يَوْمَيْنِ مِنَ الْجُمُعَةِ، إِنْ كَانَ فِي صِيَامِهِ وَإِلَّا صَامَهُمَا، وَلَمْ يَكُنْ يَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ مَا يَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ.

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ تَصُومُ لَا تَكَادُ أَنْ تُفْطِرَ، وَتُفْطِرَ حَتَّى لَا تَكَادَ أَنْ تَصُومَ إِلَّا يَوْمَيْنِ إِنْ دَخَلَا فِي صِيَامِكَ وَإِلَّا صُمْتَهُمَا (يَعْنِي: أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَتْرُكُ صَوْمَ يَوْمِ الاثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ، سَوَاءٌ وَقَعَا في جُمْلَةِ الأَيَّامِ التي يَصُومُهَا بِالتَّوَالِي، أَمْ لَمْ يَقَعَا).

قَالَ: «أَيُّ يَوْمَيْنِ؟».

قُلْتُ: يَوْمُ الِاثْنَيْنِ، وَيَوْمُ الْخَمِيسِ.

قَالَ: «ذَانِكَ يَوْمَانِ تُعْرَضُ فِيهِمَا الْأَعْمَالُ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ».

قُلْتُ: وَلَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟

قَالَ: «ذَاكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ».

وروى الشيخان عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامَاً فِي شَعْبَانَ.

وفي رِوَايَةٍ للإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ شَهْرَاً أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ.

وفي رِوَايَةٍ للإمام مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلَاً.

اغْتِنَامُ الفُرَصِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: أَيَّامُ شَهْرِ شَعْبَانَ مِنْ أَيَّامِ العُمُرِ، وَهِيَ فُرْصَةٌ لَا تُعَوَّضُ، فَلْنَحْرِصْ عَلَى اغْتِنَامِ هَذِهِ الأَيَّامِ بِالصِّيَامِ، وَالقِيَامِ، وَتِلَاوَةِ القُرْآنِ، وَإِصْلَاحِ ذَاتِ البَيْنِ.

اغْتَنِمُوا هَذَا الشَّهْرَ لِتَقْوِيَةِ إِيمَانِكُمْ بِاللهِ تعالى، وَانْظُرُوا إلى الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الذي ضَرَبَ مَثَلَاً عَظِيمَاً في اغْتِنَامِ الفُرَصِ.

روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمَاً؟».

قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا.

قَالَ: «فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جِنَازَةً؟».

قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا.

قَالَ: «فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينَاً؟».

قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا.

قَالَ: «فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضَاً؟».

قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ».

حَالُ السَّلَفِ الصَّالِحِ في شَهْرِ شَعْبَانَ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ كَانَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ يَسْتَغِلُّونَ شَهْرَ شَعْبَانَ، هَذَا الشَّهْرَ الذي غَفَلَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، بِكَثْرَةِ تِلَاوَةِ القُرْآنِ الكَرِيمِ.

يَقُولُ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ: كَانَ يُقَالُ شَهْرُ شَعْبَانَ شَهْرُ القُرَّاءِ.

وَكَانَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ إِذَا دَخَلَ شَعْبَانُ قَالَ: هَذَا شَهْرُ القُرَّاءِ.

وَكَانَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ المُلَائِيُّ إِذَا دَخَلَ شَعْبَانُ أَغْلَقَ حَانُوتَهُ وَتَفَرَّغَ لِقِرَاءَةِ القُرْآنِ.

وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

مَـضَـى رَجَبٌ وَمَا أَحْسَنْتَ فِيهِ   ***   وَهَـذَا شَـهْرُ شَـعْـبَانَ المُبَارَكْ

فَـيَـا مَـنْ ضَيَّعَ الأَوْقَاتَ جَهْلَاً   ***   بِحُرْمَتِهَا أَفِقْ وَاحْـذَرْ بَـوَارَكْ

فَسَوْفَ تُـفَـارِقُ اللَّذَّاتِ  قَسْرَاً   ***   وَيُخْلِي المَوْتُ كُرْهَاً مِنْكَ دَارَكْ

تَدَارَكْ مَا اسْتَطَعْتَ مِنَ الخَطَايَا   ***   بِتَوْبَةِ مُخْلِصٍ وَاجْعَـلْ مَـدَارَكْ

عَلَى طَلَبِ السَّلَامَةِ مِنْ جَحِيمٍ    ***   فَخَيْرُ ذَوِي الجَرَائِمِ مَنْ تَدَارَكْ

يَا عِبَادَ اللهِ: إِذَا كَانَ النَّاسُ اليَوْمَ قَدِ انْشَغَلُوا بِسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَسَلْبِ الأَمْوَالِ، وَالكَيْدِ لِبَعْضِهِمْ، وَالنَّفْخِ في نَارِ الفِتَنِ، وَتَفْرِيقِ شَمْلِ الأُمَّةِ، مِنْ أَجْلِ الذَّهَابِ بِرِيحِهَا، وَضَيَاعِ شَبَابِهَا، وَتَمْزِيقِ كِيَانِهَا، مِنْ أَجْلِ تَقْوِيَةِ عَدُوِّهَا، فَعَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ بِالانْشِغَالِ في هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ بِالطَّاعَاتِ وَالقُرُبَاتِ، بِكَثْرَةِ الصِّيَامِ، وَالقِيَامِ، وَتِلَاوَةِ القُرْآنِ، وَالإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ مَا اسْتَطَعْنَا إلى ذَلِكَ سَبِيلَاً.

فَهَذَا الشَّهْرُ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إلى اللهِ تعالى رَبِّ العَالَمِينَ، فَالْتَزِمُوا أَعْمَالَاً صَالِحَةً تَسُرُّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَتُبَيِّضُ وُجُوهَكُمْ، وَتُفْرِحُ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى يُنَادِيكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: إِلَيَّ إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ.

وَيَا حَسْرَةً عَلَى أُنَاسٍ رُفِعَتْ أَعْمَالُهُمْ إلى اللهِ تعالى في هَذَا الشَّهْرِ، وَكَانَتْ أَعْمَالُهُمْ تُسَوِّدُ الوَجْهَ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى، وَتُحْزِنُ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى يُنَادَى: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ؛ فَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «سُحْقَاً سُحْقَاً» رواه الإمام البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ عَمَّتِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتُ، وَتَطَايَرَ شَرُّهَا في كُلِّ مَكَانٍ، وَقَدْ غَفَلَ الغَافِلُونَ، وَهُمْ في غَيِّهِمْ مُنْهَمِكُونَ، وَكَأَنَّهُمْ مَا سَمِعُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ *  لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.

فَهَلْ بِوُسْعِنَا أَنْ نَسْتَغِلَّ شَهْرَ شَعْبَانَ بِالطَّاعَاتِ وَالقُرُبَاتِ، وَبِتَرْكِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ؟

هَلْ بِوُسْعِنَا أَنْ نَغْتَنِمَ فُرْصَةَ الحَيَاةِ قَبْلَ المَمَاتِ؟

هَلْ بِوُسْعِنَا أَنْ نَغْتَنِمَ نِعْمَةَ الوَقْتِ فَلَا نُضَيِّعُهُ في لَهْوٍ وَمَعْصِيَةٍ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: كَمْ مِنْ مُسْتَقْبِلٍ يَوْمَاً لَا يَسْتَكْمِلُهُ، وَكَمْ مِنْ مُؤَمِّلٍ غَدَاً لَا يُدْرِكُهُ، فَكُلُّ دَقِيقَةٍ مِنْ أَنْفَاسِنَا هِيَ فُرْصَةٌ لَنْ تُعَوَّضَ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِرْجَاعُهَا أَوْ تَدَارُكُهَا.

اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنَا عِنْدَ سَكَرَاتِ المَوْتِ مِمَّن يَقُولُ: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحَاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 2/ شعبان /1438هـ، الموافق: 28/ نيسان / 2017م