14ـ الإنسان في القرآن العظيم :«لَكِنْ عِنْدَ اللهِ أَنْتَ غَالٍ»

 

الإنسان في القرآن العظيم

14ـ «لَكِنْ عِنْدَ اللهِ أَنْتَ غَالٍ»

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الإِنْسَانُ بِشَكْلٍ عَامٍّ مُكَرَّمٌ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾. وَهَذَا التَّكْرِيمُ مِنَ اللهِ تعالى للإِنْسَانِ لَيْسَ لِقُوَّةِ الإِنْسَانِ، وَلَو كَانَ ذَلِكَ لَكَانَ الفِيلُ أَقْوَى مِنْهُ.

الإِنْسَانُ لَيْسَ مُكَرَّمَاً عِنْدَ اللهِ لِجَمَالِ خَلْقِهِ، وَلَو كَانَ ذَلِكَ لَكَانَ الطَّاووسُ أَجْمَلَ وَأَحْسَنَ مَظْهَرَاً مِنْهُ.

الإِنْسَانُ لَيْسَ مُكَرَّمَاً عِنْدَ اللهِ لِضَخَامَةِ جَسَدِهِ، وَلَو كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ البَعِيرُ أَكْبَرَ وَأَضْخَمَ مِنْهُ.

الإِنْسَانُ مُكَرَّمٌ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِبَاطِنِهِ وَلَيْسَ بِظَاهِرِهِ، مُكَرَّمٌ بِقُوَّةِ إِيمَانِهِ، وَنُضُوجِ عَقْلِهِ؛ مُكَرَّمٌ عِنْدَ اللهِ لِمَا يَحْتَوِيهِ بَاطِنُهُ مِنْ إِيمَانٍ، وَلِمَا يَحْتَوِيهِ صَدْرُهُ مِنْ سَلَامَةٍ، وَصَدَقَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلُ: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الإِنْسَانُ المُكَرَّمُ هُوَ الإِنْسَانُ التَّقِيُّ، وَالتَّقْوَى في القَلْبِ، وَإِذَا حَلَّتِ التَّقْوَى في القَلْبِ ظَهَرَتْ آثَارُهَا عَلَى جَوَارِحِ العَبْدِ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾.

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «التَّقْوَى هَاهُنَا» وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ» رواه الشيخان عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

فَإِذَا كَانَ العَبْدُ تَقِيَّاً نَقِيَّاً كَانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعِنْدَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَو كَانَ قَصِيرَ القَامَةِ، دَقِيقَ السَّاقَيْنِ، لَا يَأْبَهُ لَهُ أَحَدٌ، روى الشيخان عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ».

وَتَأْكِيدُ هَذَا كَانَ في سِيرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، هَذَا سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، الذي كَانَ مِنَ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ، وَمِنَ المُقَرَّبِينَ عِنْدَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ إلى اللهِ تعالى زُلفَى، كَمَا قَالَ سَيِّدُنَا حُذَيْفَةُ بْنُ اليَمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كَانَ أَقْرَبَ النَّاسِ هَدْيَاً وَدَلَّاً وَسَمْتَاً بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ابْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى يَتَوَارَى مِنَّا فِي بَيْتِهِ، وَلَقَدْ عَلِمَ المَحْفُوظُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ هُوَ مِنْ أَقْرَبِهِمْ إِلَى اللهِ زُلْفَى. رواه الترمذي.

وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ صَغِيرَ الجِسْمِ ضَئِيلَاً، دَقِيقَ السَّاقَيْنِ، حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا هَبَّتِ الرِّيحُ فَلَعِبَتْ بِهِ، روى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكَاً مِنَ الْأَرَاكِ، وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ، فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ (أَيْ: تُمَيِّلُهُ وَتُهَزْهِزُهُ) فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مِمَّ تَضْحَكُونَ؟».

قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ.

فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ».

فَالإِنْسَانُ المُكَرَّمُ هُوَ الإِنْسَانُ المَهْدِيُّ، وَالمَهْدِيُّ كَبِيرُ الشَّأْنِ وَالقَدْرِ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَهْمَا رَخُصَ في نَظَرِ النَّاسِ.

«لَكِنْ عِنْدَ اللهِ أَنْتَ غَالٍ»:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الإِنْسَانُ المُكَرَّمُ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ المَرْضِيُّ عِنْدَ اللهِ تعالى، وَلَو كَانَ لَا يَأْبَهُ لَهُ أَحَدٌ مِنَ الخَلْقِ، وَلَوكَانَ رَخِيصَاً عِنْدَ النَّاسِ لِظَاهِرِهِ.

روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلَاً مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرَاً، وَكَانَ يُهْدِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الْهَدِيَّةَ مِنَ الْبَادِيَةِ، فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ زَاهِرَاً بَادِيَتُنَا، وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ».

وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهُ، وَكَانَ رَجُلَاً دَمِيمَاً، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَاً وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ، فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَلَا يُبْصِرُهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ: أَرْسِلْنِي مَنْ هَذَا؟

فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ لَا يَأْلُو (لَا يُـقَصِّرُ) مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حِينَ عَرَفَهُ.

وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ؟».

فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذَاً وَاللهِ تَجِدُنِي كَاسِدَاً.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَكِنْ عِنْدَ اللهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ ـ أَوْ قَالَ: لَكِنْ عِنْدَ اللهِ أَنْتَ غَالٍ ـ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قِيمَةُ الإِنْسَانِ عِنْدَ اللهِ تعالى بِمِقْدَارِ عِبَادَتِهِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَبِمِقْدَارِ مُسَارَعَتِهِ لِامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَإِذَا فَقَدَ الإِنْسَانُ هَذِهِ القِيمَةَ، فَلَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾.

فَالتَّقْوَى هِيَ مِيزَانُ التَّفَاضُلِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَيْسَتِ العَصَبِيَّاتُ الجَاهِلِيَّةُ العَفِنَةُ المُنْتِنَةُ، وَلَا لِعَصَبِيَّةِ العِرْقِ، وَلَا لِعَصَبِيَّةِ الأَرْضِ، وَلَا لِعَصَبِيَّةِ الوَطَنِ، وَلَا لِعَصَبِيَّةِ الجِنْسِ، وَلَا اللَّوْنِ، وَلَا اللُّغَةِ.

وفي الخِتَام أُذَكِّرُ نَفْسِي وَأُذَكِّرُكُمْ بِقَوْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ قَالَ اللهُ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبَاً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾» رواه الترمذي عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا التَّقْوَى. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 22/         ذو الحجة /1438هـ، الموافق: 13/ أيلول / 2017م