567ـ خطبة الجمعة: لا تجعلوا بيتكم ريشة في مهب الريح

567ـ خطبة الجمعة: لا تجعلوا بيتكم ريشة في مهب الريح

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: دِينُنَا وَشَرْعُنَا الحَنِيفُ الذي أَتَمَّهُ اللهُ تعالى وَأَكْمَلَهُ، يَنْظُرُ إلى بُيُوتِ الزَّوْجِيَّةِ بِأَنَّهَا سَكَنٌ وَأَمْنٌ، وَيَنْظُرُ إلى العَلَاقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِوَصْفِهَا مَوَدَّةً وَرَحْمَةً وَأُنْسَاً، وَيُقِيمُ هَذِهِ العَلَاقَةَ عَلَى الاخْتِيَارِ المُطْلَقِ، لَا إِكْرَاهَ في الزَّوَاجِ، يُقِيمُهَا عَلَى أَسَاسٍ مِنَ الدِّينِ وَالخُلُقِ حَتَّى تَقُومَ عَلَى أَسَاسٍ مِنَ التَّجَاوُبِ وَالتَّعَاطُفِ وَالرَّحْمَةِ.

الدِّينُ الحَنِيفُ خَاطَبَ الأَزْوَاجَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئَاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرَاً كَثِيرَاً﴾.

هَذِهِ هِيَ القَاعِدَةُ الأَصلِيَّةُ في العَلَاقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَالزَّوْجَاتُ مَشْمُولَاتٌ في هَذَا الخِطَابِ، وَهَذِهِ القَاعِدَةُ لَيْسَتْ كَلِمَاتٍ مِنْ نَسْجِ الخَيَالِ، وَلَيْسَتْ كَلِمَاتٍ مِن بَشَرٍ، بَلْ هِيَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ.

يَا عِبَادَ اللهِ: أَمْرٌ مِنَ اللهِ تعالى الذي خَلَقَ لَنَا مِنْ أَنفُسِنَا أَزْوَاجَاً، أَنْ نُحْسِنَ المُعَاشَرَةَ مَعَ أَهْلِنَا، وَأَنْ نَصْبِرَ عَلَيْهِنَّ وَعَلَى طِبَاعِهِنَّ، وَكَذَلِكَ عَلَى المَرْأَةِ أَنْ تُحْسِنَ المُعَاشَرَةَ مَعَ زَوْجِهَا وَتَصْبِرَ عَلَيْهِ وَعَلَى طِبَاعِهِ؛ هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ لَمْسَةٌ قُرْآنِيَّةٌ لَطِيفَةٌ تُهَدِّئُ مِنْ فَوْرَةِ الغَضَبِ، وَتُرْجِعُ كُلَّاً مِنَ الزَّوْجَيْنِ إلى نَفْسِهِ رُشْدِهِ وَعَقْلِهِ طَمَعَاً بِوَعْدِ رَبِّهِ المُرَتَّبِ عَلَى المُعَاشَرَةِ بِالمَعْرُوفِ، وَخَاصَّةً إِذَا حَصَلَتِ الكَرَاهِيَةُ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئَاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرَاً كَثِيرَاً﴾.

لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ رِيشَةً في مَهَبِّ الرِّيحِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تُعَلِّمُنَا دَرْسَاً بَلِيغَاً بِالأَخْلَاقِ، فَلَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ رِيشَةً في مَهَبِّ الرِّيحِ، عَلَيْكُمْ بِضَبْطِ النَّفْسِ إِذَا حَلَّتِ الكَرَاهِيَةُ في البُيُوتِ، لَا تَفْقِدُوا أَعْصَابَكُمْ في سَاعَةِ الغَضَبِ، لِأَنَّ سَاعَةَ الغَضَبِ تُعْمِي البَصِيرَةَ، وَتُفْقِدُ التَّوَازُنَ، وَتَهْدِمُ البُيُوتَ، وَتُسْخِطُ اللهَ تعالى، وَتُوقِعُ العَبْدَ في الظُّلْمِ.

عِيشُوا في الأمَلِ وَأَنْتُمْ في وَسَطِ الأَلَمِ في حَيَاتِكُمُ الزَّوْجِيَّةِ ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئَاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرَاً كَثِيرَاً﴾. وَالوَعْدُ مِنَ اللهِ تعالى لَا يُخْلَفُ، وَتَذَكَّرُوا في سَاعَةِ الأَلَمِ يَا أَيُّهَا الأَزْوَاجُ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً (لَا يُبْغِضْ) إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقَاً رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: الحَيَاةُ الزَّوْجِيَّةُ إِذَا لَمْ تُغْمَرْ بِالرَّحْمَةِ تَنْقَلِبُ إلى جَحِيمٍ تَكْوِي بِنَارِهَا الزَّوْجَيْنِ وَالأَوْلَادَ، وَتُصْبِحُ الأُسْرَةُ في شَقَاءٍ وَضَنْكٍ وَضَيَاعٍ وَحِرْمَانٍ، الحَيَاةُ الزَّوْجِيَّةُ إِذَا لَمْ تُبْنَ عَلَى قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئَاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرَاً كَثِيرَاً﴾. فَإِنَّ عُرَى الحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ تَنْفَصِمُ.

احْذَرُوا الطَّلَاقَ عِنْدَ الكَراهِيَةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: الخَيْرُ كُلُّ الخَيْرِ في الْتِزَامِ القُرْآنِ العَظِيمِ، الخَيْرُ كُلُّ الخَيْرِ في الوُقُوفِ عِنْدَ آيَاتِ اللهِ تعالى، الخَيْرُ كُلُّ الخَيْرِ في ضَبْطِ النَّفْسِ عِنْدَ الغَضَبِ، الخَيْرُ كُلُّ الخَيْرِ في انْتِظَارِ الفَرَجِ وَالوَعْدِ مِنَ اللهِ تعالى.

الخَيْرُ كُلُّ الخَيْرِ في الْتِزَامِ قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئَاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرَاً كَثِيرَاً﴾. لَمْ يَقُلْ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَطَلِّقُوهُنَّ، بَلْ قَالَ: ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئَاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرَاً كَثِيرَاً﴾. وَذَلِكَ بِالصَّبْرِ وَالمُصَابَرَةِ، وَالمُعَاشَرَةِ بِالمَعْرُوفِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: احْذَرُوا الطَّلَاقَ عِنْدَ الكَرَاهِيَةِ، وَاصْبِرُوا، وَأَنْتُمْ تَتَخَيَّلُونَ الأَمَلَ المَوْعُودَ مِنَ اللهِ تعالى سَاعَةَ الأَلَمِ، وَاللهُ تعالى لَا يُخْلِفُ المِيعَادَ.

هَلْ مِنَ المَعْقُولِ إِذَا كَرِهَ الزَّوْجُ أَنْ يُسْرِعَ إلى الطَّلَاقِ بَعْدَ خِطَابِ اللهِ تعالى لَهُ: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾. وَبَعْدَ وَعْدِهِ ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئَاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرَاً كَثِيرَاً﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: لَيْسَتْ كُلُّ البُيُوتِ تُبْنَى عَلَى المَحَبَّةِ، رُوِيَ أَنَّ رَجُلَاً جَاءَ إلى عُمَرَ يُرِيدُ أَنْ يُطَلِّقَ زَوْجَتَهُ مُعَلِّلَاً ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا يُحِبُّهَا.

فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: وَيْحَكَ، أَلَمْ تُبْنَ البُيُوتُ إِلَّا عَلَى الحُبِّ، فَأَيْنَ الرِّعَايَةُ وَأَيْنَ التَّذَمُّمُ؟كما جاء في كنز العمال بما معناه.

يَا عِبَادَ اللهِ: أَرُونِي مَنْ تَحَلَّى بِالأَخْلَاقِ، وَالْتَزَمَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾. ثُمَّ نَدِمَ؛ وَلَكِنْ كَمْ مِنْ رَجُلٍ نَدِمَ عِنْدَمَا طَلَّقَ في سَاعَةِ الغَضَبِ؟ وَكَمْ مِنْ امْرَأَةٍ نَدِمَتْ وَعَضَّتْ عَلَى يَدَيْهَا مِنَ النَّدَمِ بَعْدَ أَنْ طَلَبَتِ الطَّلَاقَ مِنْ زَوْجِهَا وَطَلَّقَهَا؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: كَمَا أَنَّ الزَّوْجَ مَأْمُورٌ بِحُسْنِ المُعَاشَرَةِ مَعَ زَوْجَتِهِ وَخَاصَّةً في حَالَةِ الكَرَاهِيَةِ، فَكَذَلِكَ المَرْأَةُ مَأْمُورَةٌ بِذَلِكَ، وَمَنْ صَبَرَ عَلَى الآخَرِ فَهُوَ عَلَى مَوْعِدٍ مِنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرَاً كَثِيرَاً﴾.

رَبُّنَا مَا أَمَرَنَا أَنْ نُطَلِّقَ، وَلَكِنْ أَمَرَنَا أَنْ نَصْبِرَ وَنُصَابِرَ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ النُّفُورُ وَالفُرْقَةُ، رُوِيَ أَنَّ رَجُلَاً قَالَ فِي عَهْدِ عُمَرَ لِامْرَأَتِهِ: نَشَدْتُكِ بِاللهِ هَلْ تُحِبِّينِي؟

فَقَالَتْ: أَمَا إِذْ نَشَدْتَنِي بِاللهِ، فَلَا.

فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى عُمَرَ، فَأرْسَلَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: أَنْتِ التي تَقُولِينَ لِزَوْجِكِ: لَا أُحِبُّكَ؟

فقَالَتْ: يَا أَمِيرَ المُؤمنِينَ، نَشَدَنِي بِاللهِ، أَفَأَكْذِبُ؟ (كَذِبٌ للإِصْلَاحِ).

قَالَ: نَعَمْ، فَاكْذِبِيهِ، لَيْسَ كُلُّ الْبُيُوتِ تُبْنَى عَلَى الحُبِّ، وَلَكِنَّ النَّاسَ يَتَعَاشَرُونَ بِالْإِسْلَامِ وَالأَحْسَابِ.كَمَا جَاءَ فِي شَرحِ السُّنَّةِ لِلبَغَوي

احْذَرُوا الطَّلَاقَ أَيُّهَا الرِّجَالُ، وَاحْذَرُوا مِنْ طَلَبِ الطَّلَاقِ يَا أَيَّتُهَا النِّسَاءُ، وَتَذَكَّرُوا جَمِيعَاً بِأَنَّ اللهَ تعالى أَنْزَلَ في القُرْآنِ العَظِيمِ سُورَةً كَامِلَةً وَحَمَلَتِ اسْمَ سُورَةِ الطَّلَاقِ، وَلَمْ تَنْزِلْ سُورَةٌ بِاسْمِ سُورَةِ الزَّوَاجِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِخُطُورَةِ الطَّلَاقِ.

وَلْنَذْكُرْ جَمِيعَاً قَوْلَهُ تعالى: ﴿لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرَاً﴾.

اصْبِرُوا، وَعَاشِرُوا بِالمَعْرُوفِ، وَلَا تُطَلِّقُوا يَا أَيُّهَا الأَزْوَاجُ، وَاصْبِرُوا، وَعَاشِرُوا بِالمَعْرُوفِ، وَلَا تَطْلُبُوا الطَّلَاقَ يَا أَيَّتُهَا الزَّوْجَاتُ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِأَحْسَنِ الأَخْلَاقِ وَالأَعْمَالِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 16/ محرم /1439هـ، الموافق: 6/ تشرين الأول / 2017م