108ـ مع الصحابة وآل البيت :الإسلام أحب إليها من زوجها

 

مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

108ـ الإسلام أحب إليها من زوجها

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَا أَجْمَلَ البُيُوتَ إِذَا كَانَتْ مُلْتَزِمَةً شَرْعَ اللهِ تعالى، وَمَا أَسْعَدَ الأُسْرَةَ إِذَا كَانَتْ أُسْرَةً مُؤْمِنَةً مِنْ زَوْجٍ وَزَوْجَةٍ وَوَلَدٍ، بَلْ وَمَا أَجْمَلَ العَائِلَةَ إِذَا كَانَتْ مُتَمَاسِكَةً بِسِرِّ كِتَابِ اللهِ تعالى، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

أُسَرُنَا عِنْدَمَا تَكُونُ عَلَى هَذَا المُسْتَوَى فَإِنَّهَا تَعِيشُ حَيَاتَهَا الدُّنْيَوِيَّةَ في سَعَادَةٍ وَرَغَدٍ وَسُرُورٍ، تَعِيشُ حَيَاةً طَيِّبَةً كَرِيمَةً؛ وَأَمَّا في الآخِرَةِ فَحَدِّثْ بِدُونِ حَرَجٍ، عِنْدَمَا تَنْدَرِجُ تَحْتَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾.

الإِسْلَامُ أَحَبُّ إِلَيْهَا مِنْ زَوْجِهَا:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ ذَاقَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ بِاللهِ تعالى وَاليوْمِ الآخِرِ، وَذَاقَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ لَا يُسَاوِمُ عَلَى دِينِهِ، وَلَا يَبِيعُهُ بِأَيِّ عَرَضٍ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا.

أُمُّ سَيِّدِنَا أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هِيَ أُمُّ سُلَيْمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، ضَرَبَتْ أَرْوَعَ مِثَالٍ في إِيمَانِهَا بِاللهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَاليَوْمِ الآخِرِ، كَانَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا زَوْجَةً لِمَالِكِ بْنِ النَّضْرِ، وَكَانَ رَجُلَاً مُشْرِكَاً.

أَسْلَمَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ مَعَ قَوْمِهَا آلِ مِلْحَانَ، رِجَالَاً وَنِسَاءً، حِينَ دَخَلَ الإِسْلَامُ المَدِينَةَ المُنَوَّرَةَ، فَغَضِبَ زَوْجُهَا مِنْهَا إِذْ أَسْلَمَتْ، وَجَهِدَ في صَرْفِهَا عَنِ الإِسْلَامِ فَرَفَضَتْ، وَلَقَدْ كَانَتْ مَعَهُ في مَعْرَكَةٍ بَيْنَ الإِيمَانِ وَالكُفْرِ، وَبَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ، أَصَرَّتْ عَلَى إِسْلَامِهَا وَلَمْ تُسَاوِمْ عَلَيْهِ، وَأَصَرَّ هُوَ عَلَى كُفْرِهِ، وَفَارَقَهَا.

فَمَا أَسِفَتْ عَلَيْهِ، وَهَجَرَهَا إلى بِلَادِ الشَّامِ، فَمَا سَعَتْ وَرَاءَهُ، وَلَا حَزِنَتْ عَلَيْهِ، وَآثَرَتِ المُكْثَ في دَارِ الإِسْلَامِ، تُجَاهِدُ لِإِعْزَازِ دِينِ اللهِ تعالى، إِذْ كَانَ الإِسْلَامُ أَحَبَّ إِلَيْهَا مِنْ زَوْجِهَا، وَمِنْ نَفْسِهَا وَمِنْ وَلَدِهَا، وَمِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَكَانَتْ طَاعَةُ اللهِ تعالى وَطَاعَةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُقَدَّمَةً عَلَى طَاعَةِ الزَّوْجِ وَطَاعَةِ هَوَى النَّفْسِ، وَلَعَلَّ النَّفْسَ الأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ عِنْدَهَا كَانَتْ تُوحِي لَهَا، وَتَضْغَطُ عَلَيْهَا بِقُوَّةٍ، تَسْأَلُهَا: أَتُفَارِقِينَ زَوْجَكِ شَرِيكَ العُمُرِ، وَالِدَ وَلَدِكِ أَنَسٍ، وَتَخْرِبينَ بَيْتَكِ مِنْ أَجْلِ الإِسْلَامِ؟! أَتَحْرِمِينَ نَفْسَكِ وَأَنْتِ في مُقْتَبَلِ العُمُرِ وَسِنِّ الشَّبَابِ، مِنْ عِشْرَةِ الزَّوْجِ، مِنْ أَجْلِ الإِيمَانِ؟! أَتَعِيشِينَ ضَعِيفَةً بِلَا بَعْلٍ، فَقِيرَةً بِلَا مُعِيلٍ، وَحِيدَةً بِلَا زَوْجٍ، مِنْ أَجْلِ دَعْوَةٍ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟!

وَأَجَابَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ بِقُوَّةٍ عَلَى كُلِّ تِلْكَ الأَسْئِلَةِ، بَعْدَ أَنْ رُزِقَتِ النَّفْسَ المُطْمَئِنَّةَ المُوقِنَةَ؛ فَقَالَتْ ـ وَبِلَا تَرَدُّدٍ ـ: نَعَمْ، إِنِّي لَأَتْرُكُ كُلَّ ذَلِكَ، وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ، مِنْ أَجْلِ إِسْلَامِي وَإِيمَانِي وَعَقِيدَتِي؛ وَالنِّعْمَةُ التي أَنْعَمَهَا اللهُ تعالى عَلَيَّ بِهَذَا الدِّينِ لَا تُقَدَّرُ بِثَمَنٍ، وَلَا يُقَدَّمُ عَلَيْهَا شَيْءٌ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: جَاءَ في كِتَابِ الطَّبَقَاتِ الكُبْرَى لِابْنِ سَعْدٍ، عَنْ أٌمِّ سُلَيْمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: آمَنْتُ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَجَاءَ أَبُو أَنَسٍ وَكَانَ غَائِبَاً، فَقَالَ: أَصَبَوْتِ؟

قَالَتْ: مَا صَبَوْتُ، وَلَكِنِّي آمَنْتُ بِهَذَا الرَّجُلِ.

قَالَتْ: فَجَعَلَتْ تُلَقِّنُ أَنَسَاً وَتُشِيرُ إِلَيْهِ قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، قُلْ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ اللهِ.

قَالَ: فَفَعَلَ.

فَيَقُولُ لَهَا أَبُوهُ: لَا تُفْسِدِي عَلَيَّ ابْنِي.

فَتَقُولُ: إِنِّي لَا أُفْسِدُهُ.

قَالَ: فَخَرَجَ مَالِكٌ أَبُو أَنَسٍ فَلَقِيَهُ عَدُوٌّ فَقَتَلَهُ.

فَلَمَّا بَلَغَهَا قَتْلَهُ قَالَتْ: لَا جَرَمَ، لَا أَفْطِمُ أَنَسَاً حَتَّى يَدَعَ الثَّدْيَ حَيَّاً، وَلَا أَتَزَوَّجُ حَتَّى يَأْمُرَنِي أَنَسٌ.

الحِرْصُ عَلَى الإِسْلَامِ، وَتَرْبِيَةُ الأَبْنَاءِ عَلَى ذَلِكَ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمْ نَحْنُ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى تَرْبِيَةِ الأَبْنَاءِ عَلَى الإِسْلَامِ؟ كَمْ نَحْنُ اليَوْمَ بِحَاجَةٍ إلى زَوْجَاتٍ يُرَبِّينَ أَوْلَادَهُنَّ عَلَى الإِسْلَامِ، وَيُنْشِئْنَ الأَبْنَاءَ وَالبَنَاتِ علَى الإِيمَانِ مُنْذُ نُعُومَةِ أَظْفَارِهِمْ؟ كَمْ نَحْنُ اليَوْمَ بِحَاجَةٍ إلى تَرْبِيَةِ جِيلٍ يَنْشَأُ عَلَى حُبِّ اللهِ تعالى وَحُبِّ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَحُبِّ يَوْمِ القِيَامَةِ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا حَرِيصَةً كُلَّ الحِرْصِ عَلَى إِسْلَامِهَا، وَعَلَى تَرْبِيَةِ أَبْنَائِهَا عَلَى دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَهْمَا كَلَّفَهَا الثَّمَنُ.

أَخْرَجَ البَزَّارُ عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى أَبِي أَنَسٍ، فَقَالَتْ: قَدْ جئتُ الْيَوْمَ بِمَا تَكْرَهُ.

فَقَالَ: لَا تَزَالِينَ تَجِيئِينَ بِمَا أَكْرَهُ مِنْ عِنْدِ هَذَا الأَعْرَابِيِّ.

قَالَتْ: كَانَ أَعْرَابِيَّاً، اصْطَفَاهُ اللهُ وَاخْتَارَهُ، وَجَعَلَهُ نَبِيَّاً.

قَالَ: مَا الَّذِي جِئْتِ بِهِ؟

قَالَتْ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، هَذَا فِرَاقٌ بَيْنِي وَبَيْنَكِ؛ فَمَاتَ مُشْرِكَاً.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: فَارَقَ مَالِكُ بْنُ النَّضْرِ أُمَّ سُلَيْمٍ، وَغَادَرَ المَدِينَةَ المُنَوَّرَةَ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعِيشَ في بَلَدٍ لَا خَمْرَ فِيهَا، وَلَا فَسَادَ وَلَا إِفْسَادَ وَلَا شِرْكَ، غَادَرَ المَدِينَةَ المُنَوَّرَةَ لِيَبْحَثَ عَنْ بَلَدٍ يُحَقِّقُ فِيهَا شَهَوَاتِهِ وَعَلَى حِسَابِ آخِرَتِهِ ـ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى ـ وَفِي طَرِيقِ الرَّحِيلِ قُتِلَ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الحَالِ مِنْ شِرْكٍ وَكُفْرٍ وَمَعْصِيَةٍ للهِ تعالى، نَعُوذُ بِاللهِ تعالى مِنْ سُوءِ الخَاتِمَةِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: سَعَادَتُنَا في الاتِّبَاعِ، سَعَادَتُنَا في الاقْتِدَاءِ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، سَعَادَتُنَا في تَرْبِيَةِ أَبْنَائِنَا عَلَى الإِسْلَامِ، سَعَادَتُنَا أَنْ نَجْعَلَ بَعْدَ مَوْتِنَا وَلَدَاً صَالِحَاً يَدْعُو لَنَا.

هَذِهِ أُمُّ سُلَيْمٍ التي عَشِقَتْ دِينَهَا، وَعَشِقَتْ رَبَّهَا، وَعَشِقَتْ نَبِيَّهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ضَحَّتْ بِكُلِّ شَيْءٍ لِتَفُوزَ بِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، لَمَّا بَلَغَهَا خَبَرُ مَقْتَلِ زَوْجِهَا مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ، قَالَتْ: لَا جَرَمَ، لَا أَفْطِمُ أَنَسَاً حَتَّى يَدَعَ الثَّدْيَ حَيَّاً، وَلَا أَتَزَوَّجُ حَتَّى يَأْمُرَنِي أَنَسٌ.

وفي رِوَايَةٍ قَالَتْ: لَا أَتَزَوَّجُ حَتَّى يَبْلُغَ أَنَسٌ وَيَجْلِسَ في المَجَالِسِ فَيَقُولَ: جَزَى اللهُ أُمِّي عَنِّي خَيْرَاً لَقَدْ أَحْسَنَتْ وِلَايَتِي. كَذَا في الطَّبَقَاتِ الكُبْرَى لِابْنِ سَعْدٍ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَحْرِصْ عَلَى حُسْنِ تَرْبِيَةِ الأَبْنَاءِ، لَعَلَّهُمْ أَنْ يَسِيرُوا سَيْرَ الرِّجَالِ، لِنُحْسِنْ تَرْبِيَةَ البَنَاتِ لَعَلَّهُنَّ أَنْ يَسِرْنَ سَيْرَ هَذِهِ الأُمَّهَاتِ. اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بِذَلِكْ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 13/ صفر الخير /1439هـ، الموافق: 2/ تشرين الثاني / 2017م