571ـ خطبة الجمعة: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾

 

571ـ خطبة الجمعة: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: آيَتَانِ مِنْ كِتَابِ اللهِ تعالى مُلْفِتَتَانِ للنَّظَرِ، الأُولَى قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾. وَالثَّانِيَةُ قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.

الأُولَى جَاءَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْرَاً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ﴾. جَاءَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقَاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: نِعَمٌ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، وَإِذَا غَفَلَ العَبْدُ عَنِ المُنْعِمِ، وَاشْتَغَلَ بِالنِّعْمَةِ عَنِ المُنْعِمِ، صَارَ ظَالِمَاً لِنَفْسِهِ، كَفُورَاً بِنِعْمَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ إِنِ اسْتَخْدَمَ النِّعْمَةَ في غَيْرِ مَا أَرَادَ اللهُ تعالى صَارَ ظَالِمَاً لِنَفْسِهِ، وَجَاحِدَاً نِعَمَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَبِذَلِكَ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ إلى دَارِ البَوَارِ.

وَمِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللهِ تعالى عَلَى عِبَادِهِ الذينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِاسْتِغْلَالِ النِّعْمَةِ في مَعْصِيَةِ اللهِ تعالى، وَجُحُودِهِمْ لِنِعَمِ اللهِ تعالى التي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، أَنْ فَتَحَ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ وَالمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَقَالَ تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. غَفٌورٌ لِذُنُوبِهِمْ، رَحِيمٌ بِهِمْ، لَا يَعْجِلُ بِإِنْزَالِ العُقُوبَةِ.

نِعْمَةُ الجَوَّالَاتِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ نِعَمِ اللهِ تعالى عَلَيْنَا في هَذَا العَصْرِ نِعْمَةُ الجَوَّالَاتِ، التي تَجْعَلُ الإِنْسَانَ يَتَّصِلُ بِمَنْ يَشَاءُ، حَيْثُمَا كَانَ، وفي الزَّمَنِ الذي يَشَاءُ، تِقَنِيَّةٌ كَبِيرَةٌ، وَلَكِنْ وَبِكُلِّ أَسَفٍ أَكْثَرُ النَّاسِ حَوَّلُوهَا إلى نِقْمَةٍ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى زَوْجَاتِهِمْ، وَأَبْنَائِهِمْ، وَعَلَى أَعْرَاضِ النَّاسِ، وَجَعَلُوهَا سِلَاحَاً لِتَفْكِيكِ الأُسَرِ، مِنْ خِلَالِ نَشْرِ الفَاحِشَةِ وَالرَّذِيلَةِ وَالفَضِيحَةِ في بُيُوتِ المُسْلِمِينَ.

جَاءَتِ الجَوَّالَاتُ لِتَكُونَ سَبَبَاً لِنُزُولِ العَذَابِ الأَلِيمِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَذَلِكَ بِتَشْيِيعِ الفَاحِشَةِ في الذينَ آمَنُوا، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. عِوَضَاً منْ أَنْ تَكُونَ سَبَبَاً لِنُزُولِ رَحْمَةِ اللهِ تعالى في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَذَلِكَ بِـنَشْرِ الفَضِيلَةِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الرَّذِيلَةِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: إِذَا كَانَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ رَتَّبَ العَذَابَ الأَلِيمَ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لِمَنْ أَحَبَّ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ، فَكَيْفَ بِمَنْ قَرَنَ هَذَا الحُبَّ بِالأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ المَشِينَةِ التي تُشِيعُ الفَاحِشَةَ وَالرَّذِيلَةَ في الأُمَّةِ؟

نَحْنُ في زَمَنِ تَشْيِيعِ الفَوَاحِشِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ أَصْبَحْنَا في زَمَنِ حُبِّ تَشْيِيعِ الفَاحِشَةِ في الذينَ آمَنُوا، لَقَدْ أَصْبَحَ الكَثِيرُ مِمَّنِ اتَّبَعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ في الأَمْرِ بِالمُنْكَرِ وَالنَّهْيِ عَنِ المَعْرُوفِ، يُشَيِّعُونَ الفَوَاحِشَ وَالمُنْكَرَاتِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ، مَعَ أَنَّ اللهَ تعالى حَذَّرَنَا مِنَ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ بِقَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدَاً وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.

لَقَدْ كَثُرَ الخَبَثُ في البُيُوتِ بِسَبَبِ هَذِهِ الجَوَّالَاتِ، وَإِذَا كَثُرَ الخَبَثُ، وَانْـتَشَرَتِ الفَاحِشَةُ، حَلَّ الهَلَاكُ وَالدَّمَارُ، قَالَ تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرَاً﴾. وَإِذَا كَثُرَ الخَبَثُ، وَانْتَشَرَتِ الفَاحِشَةُ، حَلَّ الهَلَاكُ الذي حَذَّرَنَا مِنْهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، روى الشيخان عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعَاً يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ» وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا.

قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟

قَالَ: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ».

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ إِرْسَالَ صُوَرِ النِّسَاءِ، وَوَضْعَهَا عَلَى صَفَحَاتِ الجَوَّالِ، وَنَشْرَ المَقَاطِعِ المُخْزِيَةِ وَالفَاضِحَةِ، لَهَا أَثَرٌ وَاضِحٌ في نُفُوسِ الذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، كَمْ مِنْ رَجُلٍ كَانَ مُسْتَقِيمَاً ثُمَّ انْحَرَفَ؟ وَكَمْ مِنِ امْرَأَةٍ كَانَتْ مُلْتَزِمَةً ثُمَّ انْحَرَفَتْ؟ وَكَمْ مِنْ شَابٍّ وَشَابَّةٍ ضَلَّا الطَّرِيقَ، وَانْحَرَفَا، وَاتَّبَعَا سُبُلَ الشَّيْطَانِ، وَجَرَّا العَارَ عَلَى الأُسْرَةِ، كَمْ مِنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ؟ وَكَمْ مِنِ امْرَأَةٍ طَلَبَتِ الطَّلَاقَ مِنْ زَوْجِهَا؟ وَكَمْ مِنْ فِتْنَةٍ وَقَعَتْ؟ وَكَمْ مِنِ امْرَأَةٍ وَرَجُلٍ وَقَعَا في شِرَاكِ الشَّيْطَانِ بِسَبَبِ هَذِهِ الصُّوَرِ وَالمَقَاطِعِ التي تَنْتَشِرُ؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: الأُسْرَةُ المُسْلِمَةُ تَخْتَلِفُ كُلِّيَّاً عَنِ الأُسَرِ غَيْرِ المُسْلِمَةِ، الأُسْرَةُ المُسْلِمَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَسَاسٍ مِنَ السَّكَنِ الرُّوحِيِّ وَالجَسَدِيِّ للزَّوْجَيْنِ، وَعَلَى أَسَاسٍ مِنَ المَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ بِجَعْلِ اللهِ تعالى، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾.

فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ فَلْيَتَّقِ اللهَ تعالى في النِّعَمِ التي أَسْبَغَهَا اللهُ تعالى عَلَيْهِ، وَخَاصَّةً نِعْمَةَ الجَوَّالِ، وَأَنْ يَكُونَ عَلَى حَذَرٍ مِنَ اسْتِعْمَالِهَا في مَعْصِيَةِ اللهِ تعالى، روى أَبُو يَعْلَى عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَحْسِنُوا جِوَارَ نِعَمِ اللهِ، لَا تُنَفِّرُوهَا، فَقَلَّمَا زَالَتْ عَنْ قَوْمٍ فَعَادَتْ إِلَيْهِمْ».

وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

إِذَا كُـنْـتَ في نِعْمَةٍ فَارْعَهَا   ***   فَإِنَّ الذُّنُوبَ تُزِيلُ النِّعَم

وَحُطْهَا بِطَاعَةِ رَبِّ العِبَادِ    ***   فَرَبُّ العِبَادِ سَرِيعُ النِّقَم

يَا عِبَادَ اللهِ: نِعْمَةُ الجَوَّالِ صَارَتْ سَبَبَاً في إِهْلَاكِ ِالأَفْرَادِ وَالأُسَرِ، وَجَرَّتِ الكَثِيرَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالشَّبَابِ وَالشَّابَّاتِ إلى أَخْلَاقٍ مَشِينَةٍ، وَأَفْعَالٍ قَبِيحَةٍ؛ نِعْمَةُ الجَوَّالِ صَارَتْ مُدَمِّرَةً للأَخْلَاقِ وَالقِيَمِ، صَارَتْ مِنَ الأَسْلِحَةِ الهَدَّامَةِ، التي بِهَا اغْتِيلَتْ كَرَامَةُ الإِنْسَانِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: كُونُوا للهِ تعالى شَاكِرِينَ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَاسْتَخْدِمُوا نِعْمَةِ الجَوَّالِ، وَأَنْتُمْ تَـسْتَحْضِرُونَ الوُقُوفَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرَاً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيدَاً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾. وَالقَائِلِ: ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابَاً يَلْقَاهُ مَنْشُورَاً﴾. وَالقَائِلِ: ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الشَّاكِرِينَ لِنِعَمِكَ المُثْنِينَ عَلَيْهَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 14/ صفر الخير /1439هـ، الموافق: 3/ تشرين الثاني / 2017م