17- الإنسان في القرآن العظيم:﴿وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾

 

الإنسان في القرآن العظيم

17ـ ﴿وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ إِلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مُحْبُوبَاً عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّهُ اللهُ تعالى تَوَلَّاهُ، وَمَنْ تَوَلَّاهُ اللهُ تعالى سُعِدَ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

مِنْ صِفَاتِ الذينَ يُحِبُّهُمُ اللهُ تعالى الكَاظِمِينَ الغَيْظَ، وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ، وَالمُحْسِنِينَ لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَحَلَّى بِالشَّمَائِلِ الحَسَنَةِ، وَالأَخْلَاقِ الطَّيِّبَةِ، التي قَالَ عَنْهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَالتي قَالَ عَنْهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَاتِ قَائِمِ اللَّيْلِ صَائِمِ النَّهَارِ» رواه الحاكم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

احْرِصْ عَلَى الإِحْسَانِ لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أُمَّتُنَا اليَوْمَ تَمُوجُ في فِتَنٍ وَمِحَنٍ، وَفِي الصَّوَارِفِ عَنْ دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّ أَعْدَاءَ الأُمَّةِ اجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى تَفْكِيكِ وَحْدَةِ المُسْلِمِينَ، وَالنَّيْلِ مِنْ تَمَاسُكِهِمْ، فَأَثَارُوا العَدَاوَاتِ وَالحَسَدَ وَالبَغْضَاءَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، حَتَّى يُضْعِفُوا الأُخُوَّةَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُمْ عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ أَعْظَمَ قَضِيَّةٍ اهْتَمَّ بِهَا الإِسْلَامُ بَعْدَ الإِيمَانِ هِيَ تَوْحِيدُ كَلِمَةِ المُسْلِمِينَ، قَالَ تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعَاً وَلَا تَفَرَّقُوا﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَيْسَ مِنْ مَصْلَحَةِ الأُمَّةِ بِشَكْلٍ عَامٍّ التَّفَرُّقُ وَالاخْتِلَافُ وَالتَّنَازُعُ وَالشِّقَاقُ، لَا بَيْنَ العَامَّةِ وَلَا الخَاصَّةِ مِنْهُمْ، بَلْ يَجِبُ عَلَى الأُمَّةِ أنْ تَكُونَ صَفَّاً وَاحِدَاً، وَأَنْ يَسْعَى كُلُّ مُسْلِمٍ لِتَكْمِيلِ أَخِيهِ، وَأَنْ يَحْرِصَ كُلَّ الحِرْصِ عَلَى التَّحَلِّي بِصِفَاتِ الذينَ يُحِبُّهُمُ اللهُ تعالى، وَالتي مِنْ جُمْلَتِهَا الإِحْسَانُ لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ.

فَاحْرِصْ يَا عَبْدَ اللهِ عَلَى الإِحْسَانِ لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، لِأَنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ مِنْكَ أَنْ تَتَعَامَلَ مَعَ إِخْوَانِكَ بِالفَضْلِ لَا بِالعَدْلِ.

مِنَ العَدْلِ أَنْ تُقَابِلَ الإِسَاءَةِ بِالإِسَاءَةِ ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾. وَلَكِنَّ الفَضْلَ أَنْ تُقَابِلَ الإِسَاءَةَ بِالإِحْسَانِ، وَهَذَا هُوَ شَأْنُ المَحْبُوبِ عِنْدَ اللهِ تعالى ﴿وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾.

الجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قَضِيَّةُ مُقَابَلَةِ الإِحْسَانِ لِمَنْ أَسَاءَ قَضِيَّةٌ صَعْبَةٌ وَشَاقَّةٌ، لِأَنَّ العَبْدَ ضَعِيفٌ، وَلَكِنَّ الذي يُهَوِّنُ عَلَى العَبْدِ هَذَا الأَمْرَ هُوَ نَظَرُهُ وَعِلْمُهُ بِأَنَّ المُسِيءَ أَعْطَاهُ حَسَنَاتِهِ، أَعْطَاهُ أَغْلَى شَيْءٍ عِنْدَهُ، وَهِيَ الحَسَنَاتُ، لِذَا فَالوَاجِبُ عَلَى أَهْلِ الكَرَمِ أَنْ يُثِيبُوا الذي وَهَبَهُمْ أَغْلَى شَيْءٍ عِنْدَهُ.

مِمَّا يُهَوِّنُ عَلَى العَبْدِ مُقَابَلَةَ الإِسَاءَةِ بِالإِحْسَانِ عِلْمُهُ بِأَنَّ الجَزَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ، فَمَنْ أَحْسَنَ أُحْسِنَ إِلَيْهِ، وَمَنْ أَسَاءَ لَقِيَ الجَزَاءَ عَلَى إِسَاءَتِهِ، أَلَمْ يَقُلْ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كُلُّنَا يَعْلَمُ مَوْقِفَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ مِسْطَحٍ في حَادِثَةِ الإِفْكِ، كَمَا جَاءَ في صَحِيحِ الإمام البُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: فَلَمَّا أَنْزَلَ اللهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ: وَاللهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئَاً أَبَدَاً بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ، فَأَنْزَلَ اللهُ: ﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي القُرْبَى وَالمَسَاكِينَ وَالمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللهِ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدَاً.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ الصِّفَاتِ التي يُحِبُّهَا اللهُ تعالى مِنْ عَبْدِهِ العَفْوَ وَالإِحْسَانَ لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ، قَالَ تعالى: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾.

جَاءَ في فَصْلِ الخِطَابِ في الزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ وَالآدَابِ: عَنْ بَكْرِ بْنِ مَاعِزٍ قَالَ: أُعْطِيَ الرَّبِيعُ فَرَسَاً أَو اشْتَرَى فَرَسَاً بِثَلَاثِينَ أَلْفَاً، فَغَزَا عَلَيْهَا؛ ثُمَّ أَرْسَلَ غُلَامَهُ يَحْتَشُّ، وَقَامَ يُصَلِّي وَرَبَطَ فَرَسَهُ.

فَجَاءَ الغُلَامُ فَقَالَ: يَا رَبِيعُ، أَيْنَ فَرَسُكَ؟

قَالَ: سُرِقَتْ يَا يَسَارُ.

قَالَ: وَأَنْتَ تَنْظُرُ إِلَيْهَا؟

قَالَ: نَعَمْ يَا يَسَارُ، إِنِّي كُنْتُ أُنَاجِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فَلَمْ يَشْغَلْنِي عَنْ مُنَاجَاةِ رَبِّي شَيْءٌ؛ اللَّهُمَّ إِنَّهُ سَرَقَنِي وَلَمْ أَكُنْ لِأَسْرِقَهُ، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ غَنِيَّاً فَاهْدِهِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرَاً فَأَغْنِهِ ـ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ـ.

وَأَخِيرَاُ يُذْكَرُ بِأَنَّ الشَّيْخَ العَلَّامَةَ أَحْمَدَ الشَّامِيَّ مُفْتِي الحَنَابِلَةِ في مَدِينَةِ دُومَا نَزَلَ إلى بَيْتِهِ سَارِقٌ فَعَرَفَهُ الشَّيْخُ، فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ، لَا تَأْخُذْ مِنْ هَذَا المَالِ، فَإِنَّهُ أَمَانَاتٌ، لَكِنْ مِنْ ذَاكَ المَالِ فَإِنَّهُ لِي.

فَأَخَذَ السَّارِقُ المَالَ وَظَنَّ أَنَّ الشَّيْخَ لَمْ يَعْرِفْهُ.

فَذَهَبَ الشَّيْخُ في اليَوْمِ الثَّانِي إلى بَيْتِ هَذَا السَّارِقِ وَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ، بِاللهِ عَلَيْكَ سَامِحْنَا؛ وَأَعْطَاهُ شَيْئَاً مِنَ المَالِ وَقَالَ لَهُ: نَحْنُ قَصَّرْنَا مَعَكَ، وَلَو تَفَقَّدْنَا الفُقَرَاءَ لَكُنَّا عَرَفْنَا أَنَّكَ بِحَاجَةٍ، وَلَمَا أَوْصَلْنَاكَ إلى مَا وَصَلْتَ إِلَيْهِ.

فَذَابَ هَذَا السَّارِقُ خَجَلَاً وَصَارَ مِنَ الأَتْقِيَاءِ وِمْنِ تَلَاميذِ الشَّيْخِ المُلَازِمِينَ لَهُ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ المُحْسِنِينَ الذينَ يُقَابِلُونَ السَّيِّئَاتِ بِالحَسَنَاتِ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الإِخْلَاصَ في ذَلِكَ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 12/ صفر الخير /1439هـ، الموافق: 1/ تشرين الثاني / 2017م