19ـ الإنسان في القرآن العظيم:﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ﴾

 

الإنسان في القرآن العظيم

19ـ ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ﴾

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الإِنْسَانُ بِشَكْلٍ عَامٍّ مَحْبُوبٌ عِنْدَ اللهِ تعالى، وَيَزْدَادُ حُبُّ اللهِ تعالى للعَبْدِ إِذَا اسْتَقَامَ عَلَى شَرْعِ اللهِ تعالى، وَلَكِنْ إِذَا انْحَرَفَ عَنْ جَادَّةِ الصَّوَابِ وَأَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ سَقَطَ العَبْدُ مِنْ عِنَايَةِ اللهِ تعالى.

وَلَكِنْ مِنْ فَضْلِ اللهِ تعالى عَلَى عِبَادِهِ أَنْ فَتَحَ لَهُم بَابَ التَّوْبَةِ، وَدَعَاهُمْ إِلَيْهَا، وَوَعَدَهُمْ بِالقَبُولِ، قَالَ تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾. بَلْ فَتَحَ لَهُمْ بَابَ الرَّجَاءِ، فَقَالَ تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعَاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾. وَحَذَّرَهُمْ مِنَ اليَأْسِ وَالقُنُوطِ، فَقَالَ لَهُمْ: ﴿لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ تَمَامِ فَضْلِ اللهِ تعالى عَلَى العَاصِينَ أَنْ رَغَّبَهُمْ في التَّوْبَةِ وَالإِنَابَةِ، وَحَرَّضَهُمْ عَلَيْهَا، فَقَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحَاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

وَكَذَلِكَ دَعَاهُمْ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى التَّوْبَةِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى اللهِ، فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ» رواه الإمام مسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

وَأَوْحَى اللهُ تعالى إلى سَيِّدِنَا دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا دَاوُدُ، لَوْ يَعْلَمُ المُدْبِرُونَ عَنِّي كَيْفَ انْتِظَارِي لَهُمْ وَرِفْقِي بِهِمْ وَشَوْقِي إِلَى تَرْكِ مَعَاصِيهِمْ لَمَاتُوا شَوْقَاً إِلَيَّ، وَتَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُمْ مِنْ مَحَبَّتِي، يَا دَاوُدُ، هَذِهِ إِرَادَتِي فِي المُدْبِرِينَ عَنِّي فَكَيْفَ إِرَادَتِي بِالمُقْبِلِينَ عَلَيَّ! /كذا في التبصرة لابن الجوزي.

سَعَةُ عَفْوِ اللهِ تعالى وَمَغْفِرَتِهِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَاللهِ لَو عَرَفْنَا مَدَى سَعَةِ عَفْوِ اللهِ تعالى وَمَغْفِرَتِهِ لَذُبْنَا حَيَاءً مِنَ اللهِ تعالى، هَلْ مِنَ المَعْقُولِ أَنْ يُعْرِضَ العَبْدُ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ الذي يَقُولُ كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرَاً تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعَاً، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعَاً تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعَاً، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئَاً لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً».

وَجَاءَ في أَثَرٍ إِلَهِيٍّ: يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَهْلُ ذِكْرِي أَهْلُ مُجَالَسَتِي، وَأَهْلُ شُكْرِي أَهْلُ زِيَادَتِي، وَأَهْلُ طَاعَتِي أَهْلُ كَرَامَتِي، وَأَهْلُ مَعْصِيَتِي لَا أُقَنِّطُهُمْ مِنْ رَحْمَتِي؛ إِنْ تَابُوا فَأَنَا حَبِيبُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَأَنَا طَبِيبُهُمْ؛ أَبْتَلِيهِمْ بِالمَصَائِبِ، لِأُطَهِّرَهُمْ مِنَ المَعَايِبِ. / مدارج السالكين.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَالأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الذي يُجَالِسُ الصَّالِحينَ أَهْلَ الذِّكْرِ وَالتَّقْوَى وَالصَّلَاحِ يَغْفِرُ اللهُ تعالى لَهُ، روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ للهِ مَلاَئِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمَاً يَذْكُرُونَ اللهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ.

قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا.

قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ، مَا يَقُولُ عِبَادِي؟

قَالُوا: يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ.

قَالَ: فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟

قَالَ: فَيَقُولُونَ: لَا وَاللهِ مَا رَأَوْكَ؟

قَالَ: فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟

قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدَاً وَتَحْمِيدَاً، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحَاً.

قَالَ: يَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي؟

قَالَ: يَسْأَلُونَكَ الجَنَّةَ.

قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟

قَالَ: يَقُولُونَ: لَا وَاللهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا.

قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟

قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصَاً، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبَاً، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً.

قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟

قَالَ: يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ.

قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟

قَالَ: يَقُولُونَ: لَا وَاللهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا.

قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟

قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارَاً، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً.

قَالَ: فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ.

قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ المَلاَئِكَةِ: فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ.

قَالَ: هُمُ الجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَنِيئَاً لِمَنْ رَزَقَهُ اللهُ تعالى تَوْبَةً صَادِقَةً نَصُوحَاً، وَيَا فَرْحَتَهُ بِمَحَبَّةِ اللهِ تعالى لَهُ ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ﴾.

هَنِيئَاً لِمَنْ صَدَقَ في تَوْبَتِهِ إِذْ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ».

يَا رَبِّ لَكَ الحَمْدُ يَا مَنْ خَلَقْتَنَا بَعدَ مَوْتِنَا، وَلَكَ الحَمْدُ يَا مَنْ قَوَّيْتَنَا بَعْدَ ضَعْفِنَا، وَلَكَ الحَمْدُ يَا مَنْ رَبَّيْتَنَا عِنْدَ صِغَرِنَا، وَلَكَ الحَمْدُ يَا مَنْ أَغْنَيْتَنَا بَعْدَ فَقْرِنَا، وَلَكَ الحَمْدُ يَا مَنْ هَدَيْتَنَا بَعْدَ ضَلَالِنَا، وَلَكَ الحَمْدُ يَا مَنْ عَلَّمْتَنَا بَعْدَ جَهْلِنَا، وَلَكَ الحَمْدُ يَا مَنْ أَشْبَعْتَنَا بَعْدَ جُوعِنَا، وَلَكَ الحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ عَلَى نِعَمِكَ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ مَا عَلِمْنَا مِنْهَا وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، نَسْأَلُكَ يَا رَبَّنَا يَا مُعْطِي، أَنْ تَرْزُقَنَا حَقَّ الحَيَاءِ مِنْكَ، فَاشْرَحْ صُدُورَنَا لِصِدْقِ التَّوْبَةِ وَالإِنَابَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَيْكَ، حَتَّى تُثْبِتَنَا عِنْدَكَ مِنَ المَحْبُوبِينَ بِفَضْلِكَ، لِأَنَّكَ قُلْتَ وَقَوْلُكَ حَقٌّ: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ﴾.

نَسْأَلُكَ تَوْبَةً صَادِقَةً نَصُوحَاً مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، وَقَدِيمِهَا وَحَدِيثِهَا، وَسِرِّهَا وَعَلَانِيَتِهَا، وَعَمْدِهَا وَخَطَئِهَا. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 4/ ربيع الأول /1439هـ، الموافق: 22/ تشرين الثاني / 2017م