39ـ دروس رمضانية 1438هـ : إلا عقوق الوالدين

 

دروس رمضانية 1438هـ

39ـ إلا عقوق الوالدين

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إنَّ من أَشَدِّ الأُمُورِ حُرمَةً، وأَسرَعِهَا عُقُوبَةً، وأَعجَلِهَا مَقْتَاً عِندَ اللهِ تعالى، وعِندَ المُؤمِنِينَ، إيذَاءَ النَّاسِ بِغَيرِ حَقٍّ، والمُؤذِي للنَّاسِ بِغَيرِ حَقٍّ حِيلَ بَينَهُ وبَينَ قَلبِهِ، حتَّى صَارَ كالحِجَارَةِ أو أَشَدَّ قَسْوَةً، وهذا هوَ الدَّاءُ الخَطِيرُ، والشَّرُّ المُستَطِيرُ، الذي انتَشَرَ بَينَ النَّاسِ انتِشَارَاً يُنذِرُ بالخَطَرِ، وبانتِقَامِ اللهِ الجَبَّارِ جَلَّ جَلالُهُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الإيذَاءُ للنَّاسِ بِغَيرِ حَقٍّ يُخَرِّبُ الدِّيَارَ، ويُزِيلُ الأَمصَارَ، ويُقَلِّلُ البَرَكَةَ، ويَحجُبُ الدُّعَاءَ، والمُؤذِي في ظُلُمَاتٍ دُنيَوِيَّةٍ وأُخرَوِيَّةٍ، وكَيفَ يُقَدِّسُ اللهُ تعالى أُمَّةً لا تَأخُذُ على يَدِ المُؤذِي.

روى ابنُ مَاجَه عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: لَمَّا رَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ ـ الحَبَشَةِ ـ قَالَ: «أَلَا تُحَدِّثُونِي بِأَعَاجِيبِ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ؟».

قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ؛ بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ، فَمَرَّتْ بِفَتىً مِنْهُمْ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا، ثُمَّ دَفَعَهَا، فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا.

فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللهُ الْكُرْسِيَّ، وَجَمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَتَكَلَّمَتِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَداً.

قَالَ: يَقُولُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَتْ، صَدَقَتْ، كَيْفَ يُقَدِّسُ اللهُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ؟!».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إذا كَانَ هذا الإيذَاءُ من رَجُلٍ أَجنَبِيٍّ لامرَأَةٍ عَجُوزٍ، يَقُولُ فِيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ يُقَدِّسُ اللهُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ؟!».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لقد تَفَشَّى الإيذَاءُ في مُجتَمَعِنَا، لَيسَ على مُستَوَى الأُمَّةِ والجَمَاعَاتِ والأَفرَادِ فَحَسْبُ، بل وَصَلَ الإيذَاءُ إلى الأَقَارِبِ والأَرحَامِ، بل إلى من كَانَ سَبَبَاً في وُجُودِنَا، ألا وهُمَا الأَبَوَانِ.

«إلا عُقُوقَ الوَالِدَينِ»:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لقد حَذَّرَ الإسلامُ من إيذَاءِ المُؤمِنِينَ والمُؤمِنَاتِ بِغَيرِ حَقٍّ، فقالَ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً﴾. فَكَيفَ إذا كَانَ هذا الإيذَاءُ للأَبَوَينِ المُؤمِنَينِ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِيَسمَعْ كُلُّ من آذَى أَبَوَيهِ، وَوَقَعَ في عُقُوقِهِمَا، حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي رواه الحاكم عن أَبِي بَكرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّ الذُّنُوبِ يُؤَخِّرُ اللهُ ما شَاءَ مِنهَا إلى يَومِ القِيَامَةِ، إلا عُقُوقَ الوَالِدَينِ، فإنَّ اللهَ تعالى يُعَجِّلُهُ لِصَاحِبِهِ في الحَيَاةِ قَبلَ المَمَاتِ».

وما أَرَى هذا البَلاءَ الذي يُصَبُّ على الأُمَّةِ إلا بِأَسبَابِ ما اقتَرَفْنَاهُ بِأَيدِينَا، والتي من جُملَتِهَا إيذَاءُ الأَبَوَينِ وعُقُوقُهُمَا.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إيذَاءُ الأَبَوَينِ وعُقُوقُهُمَا صَارَ أَمرَاً جَلِيَّاً وَاضِحَاً في مُجتَمَعِنَا، وخَاصَّةً في هذهِ الأزمَةِ التي كَشَفَت طِبَاعَ كَثِيرٍ من الأَبنَاءِ، ولن أَكُونَ مُبَالِغَاً إذا قُلتُ بأنَّ العُقُوقُ للأَبَوَينِ قَائِمٌ على قَدَمٍ وسَاقٍ في أَكثَرَ بُيُوتِ المُسلِمِينَ اليَومَ.

كَلِمَةُ أُفٍّ وما فَوقَهَا قد صَدَرَتْ من أَفوَاهِ الكَثِيرِ من الأَبنَاءِ والبَنَاتِ، وهذا من الإيذَاءِ لَهُمَا.

التَّضَجُّرُ من الوَالِدَينِ حَدِّثْ عَنهُ بِدُونِ حَرَجٍ، وهذا من الإيذَاءِ لَهُمَا.

العُبُوسُ في وَجْهِ الوَالِدَينِ حَدِّثْ عَنهُ بِدُونِ حَرَجٍ، وهذا من الإيذَاءِ لَهُمَا.

أمَّا في مَجَالِ ضَرْبِ الأَبَوَينِ فقد ضَرَبَ البَعضُ آبَاءَهُم وأُمَّهَاتِهِم، والبَعضُ الآخَرُ طَرَدَ أَبَوَيهِ من بَيتِهِ، وخَاصَّةً في هذهِ الأَزمَةِ.

أمَّا الشُّحُّ على الأَبَوَينِ فَحَدِّثْ عَنهُ بِدُونِ حَرَجٍ، وكُلُّ هذا من الإيذَاءِ لَهُمَا.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إذا كَانَ من آذَى ذِمِّيَاً، فَخَصْمُهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَكَيفَ إذا كَانَ الإيذَاءُ للأَبَوَينِ؟

الملائِكَةُ لا تَنزِلُ على قَومٍ فِيهِم قَاطِعٌ للرَّحِمِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كُلُّنَا يَعلَمُ بأنَّ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ كَبِيرَةٌ من الكَبَائِر، قال تعالى فِيهَا: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا؟﴾. إذا كَانَ هذا في حَقِّ قَاطِعِ الرَّحِمِ، والذي قَالَ فِيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ الرَّحمَةَ ـ وفي رِوَايَةٍ: إنَّ المَلائِكَةَ ـ  لا تَنزِلُ على قَومٍ فِيهِم قَاطِعُ رَحِمٍ» رواه الإمام البخاري في الأَدَبِ المُفرَدِ عن عَبدِ اللهِ بنِ أَبِي أَوفَى رَضِيَ اللهُ عنهُ.

إذا كَانَ قَاطِعُ الرَّحِمِ لا يُرحَمُ، ولا تَنزِلُ عَلَيهِ مَلائِكَةُ الرَّحمَةِ، فَكَيفَ يَتَصَوَّرُ العَاقُّ لِوَالِدَيهِ والمُؤذِي لَهُمَا أن يَعِيشَ حَيَاةً طَيِّبَةً لا شَقَاءَ فِيهَا ولا ضَنكَ؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قُولُوا للعَاقِّ لِوَالِدَيهِ والمُؤذِي لَهُمَا:

تَطلُبُ جَنَّةَ اللهِ تعالى، وتَنسَى قَولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْزَمْ رِجْلَهَا، فَثَمَّ الْجَنَّةُ» رواه ابن ماجه عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

تَطلُبُ جَنَّةَ اللهِ تعالى، وتَنسَى قَولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ، أَو احْفَظْهُ» رواه الترمذي عن أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

تَطلُبُ جَنَّةَ اللهِ تعالى، وتَنسَى قَولَهُ تعالى: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾.

وهل نَسِيتَ أَيَّامَ ضَعْفِكَ عِندَمَا كُنتَ صَغِيرَاً؟ وهل تَتَنَاسَى المَرحَلَةَ التي تَنتَظِرُكَ آخِرَ عُمُرِكَ، ألا وهيَ الضَّعفُ الثَّانِي، فلا تَغتَرَّ بِقُوَّتِكَ، فمن المُحَالِ دَوَامُ الحَالِ.

يا أَيُّهَا العَاقُّ لِوَالِدَيهِ، فِرَّ من العُقُوقِ إلى بِرِّ الوَالِدَينِ، حتَّى لا تَندَمَ، وإلا فَأَنتَ نَادِمٌ في الدُّنيَا قَبلَ الآخِرَةِ.

اللَّهُمَّ اجعَلنَا بَرَرَةً بآبَائِنَا وأُمَّهَاتِنَا. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 23/رمضان /1438هـ ، الموافق: 18/حزيران/ 2017م