10ـالإنسان في القرآن العظيم: فطرة الله تعالى للإنسان

 

الإنسان في القرآن العظيم

10ـ فطرة الله تعالى للإنسان

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ تَكْرِيمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ للإِنْسَانِ أَنَّهُ خَلَقَهُ عَلَى الفِطْرَةِ، حَيْثُ جَعَلَهُ يَسْأَلُ عَنْ كُلِّ فِعْلٍ مَنْ فَعَلَهُ؟

فَلَوْ رَأَى الإِنْسَانُ بِنَاءً جَمِيلَاً وَحَسَنَاً وَمُحْكَمَاً، وَلَمْ يَرَ بَانِيهِ، تَرَاهُ يَسْأَلُ: مَنْ بَنَى هَذَ البِنَاءَ؟ وَلَوْ رَأَى صَنْعَةً مُحْكَمَةً، وَلَمْ يَرَ الصَّانِعَ، يَسْأَلُ: مَنْ صَنَعَ هَذِهِ الصَّنْعَةَ؟ حَتَّى أَقَرَّ بِذَلِكَ المُشْرِكُونَ رَغْمَاً عَنْ أُنُوفِهِمْ.

لِنَنْظُرْ في قِصَّةِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، عِنْدَمَا كَسَرَ الأَصْنَامَ، فِي غِيَابِ قَوْمِهِ عِنْدَمَا كَانُوا في عِيدٍ لَهُمْ، فَلَمَّا رَجَعُوا وَوَجَدُوا الأَصْنَامَ مُكَسَّرَةً مُبَاشَرَةً قَالُوا: ﴿مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا﴾؟ لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ فِعْلٍ فَاعِلَاً، وَعَلِمُوا أَنَّ الأَصْنَامَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، بَلْ وَلَا تَتَحَرَّكُ، لِذَلِكَ لَمْ يَخْطُرْ في بَالِهِمْ بِأَنَّ مَعْرَكَةً دَارَتْ بَيْنَ الأَصْنَامِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَعْرِفُوا الفَاعِلَ.

وَمَا سَأَلُوا الأَصْنَامَ، بَلْ سَأَلُوا العُقَلَاءَ: ﴿مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا﴾؟

فَأَجَابَهُمْ مَنْ سَمِعَ: ﴿سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾.

هَذِهِ هِيَ الفِطْرَةُ في الإِنْسَانِ لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُهَا، فَلَا بُدَّ لِكُلِّ فِعْلٍ مِنْ فَاعِلٍ، وَلِكُلِّ صَنْعَةٍ مِنْ صَانِعٍ، وَلِكُلِّ مَخْلُوقٍ مِنْ خَالِقٍ، وَإِنَّ كُلَّ صَانِعٍ لَهُ غَايَةٌ مِمَّا صَنَعَ وَخَلَقَ وَأَوْجَدَ.

الغَايَةُ مِنْ خَلْقِنَا:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَكُونَ عُقَلَاءَ، وَأَنْ نَتَسَاءَلَ مَعَ أَنْفُسِنَا: مَا هِيَ الغَايَةُ مِنْ خَلْقِنَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا؟ ثُمَّ لِنُفَكِّرْ في هَذِهِ الأَجْيَالِ جِيلَاً يَتْلُو جِيلَاً، قَوْمٌ يَذْهَبُونَ، وَيَأْتِي قَوْمٌ مِنْ بَعْدِهِمْ.

ثُمَّ لِنُفَكِّرْ في أَنْفُسِنَا، وُلِدْنَا أَطْفَالَاً ضُعَفَاءَ، لَا حَوْلَ لَنَا وَلَا قُوَّةَ، لَا عَقْلٌ يُفَكِّرُ، وَلَا يَدٌ تَبْطِشُ، وَلَا لِسَانٌ يَتَكَلَّمُ، وَلَا رِجْلٌ تَمْشِي، لَا يَعِي الطِّفْلُ إِلَّا ثَدْيَ أُمِّهِ، فَطَرَهُ اللهُ تعالى عَلَى المَيْلِ إِلَيْهِ، وَعَلَى مَصِّ اللَّبَنِ مِنْهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ صَارَتْ لَنَا قُوَّةٌ، وَبَعْدَ القُوَّةِ نَعُودُ إلى الضَّعْفِ وَالشَّيْبَةِ، مَنْ هُوَ الفَاعِلُ بِنَا هَذَا التَّحَوُّلَ؟ وَمَا هِيَ الغَايَةُ مِنْ إِيجَادِنَا؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ تَنَاسَى هَذَا المَوْضُوعَ، وَظَنُّوا أَنْفُسَهُمْ أَنَّهُمْ مَا وُجِدُوا إِلَّا للطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنِّكَاحِ وَالتَّنَاسُلِ، وَيَعْلُو بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.

ظَنُّوا أَنَّهُمْ مَا وُجِدُوا إِلَّا للتَّنَافُسِ عَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا، فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ قَتْلَاً وَسَلْبَاً وَقَهْرَاً، وَالعَجِيبُ أَنَّهُم عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّهُمْ رَاحِلُونَ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا، وَمَعَ ذَلِكَ يَتَنَاسَوْنَ إلى أَيْنَ تَكُونُ هَذِهِ الرِّحْلَةُ.

الكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ يَرَوْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا مَلَذَّاتٍ وَأَهْوَاءَ وَشَهَوَاتٍ، وَيَقُولُونَ: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾. حَيَاةُ لَهْوٍ وَلَعِبٍ وَتَفَاخُرٍ وَتَكَاثُرٍ في المَالِ وَالأَهْلِ وَالوَلَدِ، دُونَ السُّؤَالِ عَنِ الغَايَةِ مِنْ خَلْقِنَا؟ عَنْ نَقْلِنَا مِنْ طَوْرٍ إلى طَوْرٍ؟ وَإلى أَيْنَ ذَاهِبُونَ؟

الكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ تَجَاهَلُوا تَكْرِيمَ اللهِ تعالى لَهُمْ، بِأَنَّهُ خَلَقَهُمْ عَلَى الفِطْرَةِ، وَمَعْرِفَةَ الغَايَةِ مِنَ الخَلْقِ، إِلَّا فِئَةً مِنْهُمْ قَلِيلَةً كَانُوا عُقَلَاءَ، وَالْتَفَتُوا إلى كِتَابِ اللهِ تعالى الذي هُوَ مِنْ خَالِقِهِمْ، فَوَجَدُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾. وَقَوْلَهُ تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلَاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾.

فَهِمَ هَؤُلَاءِ القِلَّةُ الغَايَةَ مِنْ خَلْقِهِمْ، وَعَرَفُوا أَنَّهُمْ رَاجِعُونَ إلى خَالِقِهِمْ، وَإلى صَانِعِهِمُ الذي أَحْكَمَ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، فَأَقْبَلُوا عَلَى الوَظِيفَةِ التي خُلِقُوا مِنْ أَجْلِهَا، وَبِذَلِكَ وَجَدُوا سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحَاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: العَاقِلُ هَوَ الذي يَهْتَمُّ بِالغَايَةِ التي خُلِقَ مِنْ أَجْلِهَا، لِأَنَّ العُمُرَ مَهْمَا طَالَ لَا بُدَّ مِنَ القَبْرِ، وَالقَبْرُ صُنْدُوقُ العَمَلِ، وَالآخِرَةُ دَارُ الجَزَاءِ ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾.

العَاقِلُ هُوَ مِنْ يُفَكِّرُ في الآخِرَةِ التي سَتَكُونُ جَزَاءً عَلَى أَعْمَالِهِ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ اللهُ تعالى مَا خَلَقَنَا عَبَثَاً ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثَاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾.

وَفِطْرَتُنَا تَقْضِي بِأَنَّ اللهَ تعالى مَا خَلَقَنَا عَبَثَاً، لِأَنَّ العَقْلَ أَرْشَدَنَا إلى أَنَّ كُلَّ صَنْعَةٍ لَهَا صَانِعٌ، وَكُلُّ مَصْنُوعٍ لَهُ غَايَةٌ مِنْ صُنْعِهِ.

العَاقِلُ مَنْ فَكَّرَ في قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرَاً قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟

فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ.

وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسَاً فِي الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسَاً قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟

فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ، مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ».

العَاقِلُ مَنْ فَكَّرَ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتَاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورَاً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. وَفي قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾. وَفي قَوْلِهِ تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفَاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ﴾.

العَاقِلُ مَنْ فَكَّرَ في قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

العَاقِلُ مَنْ فَكَّرَ إلى أَيْنَ أَنَا مَا بَعْدَ المَوْتِ؟

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 18/ شوال /1438هـ، الموافق: 11/ تموز / 2017م