105ـ مع الصحابة وآل البيت : بيع دار الندوة وإنفاق ثمنها

 

مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

105ـ بيع دار الندوة وإنفاق ثمنها

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ مَنْ خَالَطَ الإِيمَانُ بَشَاشَةَ قَلْبِهِ، وَذَاقَ حَلَاوَتَهُ، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَهْجُرَ الطَّاعَاتِ وَالقُرُبَاتِ، فَتَرَاهُ أَخْرَجَ مِنْ قَلْبِهِ حُبَّ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا وَزَخَارِفَهَا، وَهَانَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا، وَبَذَلَهَا في سَبِيلِ مَرْضَاتِ اللهِ تعالى، وَامْتَثَلَ قَوْلَهُ تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾.

هَذِهِ حَقِيقَةٌ لَا يَجْهَلُهَا أَحَدٌ؛ فَهِرَقْلُ عَظِيمُ الرُّومِ عَرَفَ أَنَّهُ مَنْ ذَاقَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ، وَعَرَفَ طَعْمَهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ دِينِهِ أَبَدَاً، أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا أَمْ أَدْبَرَتْ، وَمَهْمَا فُعِلَ بِهِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ ذَاقَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ بِاللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ، خَرَجَ مِنْ قَلْبِهِ حُبُّ الدُّنْيَا، فَأَقْبَلَ بِالإِنْفَاقِ في سَبِيلِ اللهِ عَلَى قَدْرِ إِيمَانِهِ بِاللهِ تعالى وَبِاليَوْمِ الآخِرِ، لِأَنَّهُ عَرَفَ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾.

وَعَرَفَ قَوْلَهُ تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾.

إِنْفَاقُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: سَيِّدُنَا حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الذي كَانَ صَدِيقَاً لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في أَيَّامِ جَاهِلِيَّتِهِ، وَعَرَفَ صِدْقَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَمَانَتَهُ، لِحِكْمَةٍ أَرَادَهَا اللهُ تعالى أَنْ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ إلى عَامِ فَتْحِ مَكَّةَ.

أَرَادَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ابْنُ أَخِي أُمِّ المُؤْمِنِينَ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ الكُبْرَى رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عِنْدَمَا أَسْلَمَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ تَقْصِيرِهِ وَعَنْ جَمِيعِ مَوَاقِفِهِ السَّابِقَةِ التي كَانَتْ في الجَاهِلِيَّةِ، وَأَرَادَ أَنْ يُسْدِلَ سِتَارَاً مِنَ النِّسْيَانِ عَلَى ذَلِكَ المَاضِي البَغِيضِ، وَذَلِكَ بِالإِنْفَاقِ في سَبِيلِ اللهِ تعالى، وَآلَى عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ.

بَيْعُ دَارِ النَّدْوَةِ وَإِنْفَاقُ ثَمَنِهَا:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَ بِيَدِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حِينَ أَسْلَمَ الرِّفَادَةُ وَدَارُ النَّدْوَةِ، فَبَاعَهَا بَعْدُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِمِائَةِ أَلْفٍ، وَفِي رِوَايَةٍ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ.

فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: بِعْتَ مَكْرُمَةَ قُرَيْشٍ؟

فَقَالَ لَهُ حَكِيمٌ: ابْنَ أَخِي، ذَهَبَتِ المَكَارِمُ فَلَا كَرَمَ إِلَّا التَّقْوَى؛ يَا ابْنَ أَخِي، إِنِّي اشْتَرَيْتُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِزِقِّ خَمْرٍ، وَلَأَشْتَرِيَنَّ بِهَا دَارَاً فِي الْجَنَّةِ، أُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ جَعَلْتُهَا فِي سَبِيلِ اللهِ.

وَهَذِهِ الدَّارُ كَانَتْ لِقُرَيْشٍ بِمَنْزِلَةِ دَارِ الْعَدْلِ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ صَارَ سِنُّهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، إِلَّا حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ فَإِنَّهُ دَخَلَهَا وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. /البداية والنهاية/

مِئَةُ بَدَنَةٍ مُجَلَّلَةٌ أَنْفَقَهَا في سَبِيلِ اللهِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الإِنْفَاقُ في سَبِيلِ اللهِ تعالى يَكُونُ عَلَى قَدْرِ الإِيمَانِ بِاللهِ تعالى وَبِاليَوْمِ الآخِرِ، فَكُلَّمَا عَظُمَ الإِيمَانُ كُلَّمَا عَظُمَ الإِنْفَاقُ.

فَسَيِّدُنَا حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَرَادَ أَنْ يَسْتَغِلَّ الأَيَّامَ التي أَكْرَمَهُ اللهُ تعالى بِهَا في إِسْلَامِهِ بِكَثْرَةِ الإِنْفَاقِ في سَبِيلِ اللهِ تَدَارُكَاً لِمَا فَاتَهُ، وَهَذَا شَأْنُ العُقَلَاءِ مِمَّنْ قَرَأَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾. فَإِنَّهُ يـُسْرِعُ للإِنْفَاقِ لَا لِتَكْدِيسِ الأَمْوَالِ وَجَمْعِهَا، وَتَرْكِهَا للذُّرِّيَّةِ مِنْ بَعْدِهِ، لِأَنَّ العَاقِلَ يُحِبُّ الخَيْرَ لِنَفْسِهِ في دَارِ البَقَاءِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: ذَكَرَ الزُّبَيْرُ أَنَّ حَكِيمَاً حَجَّ عَامَاً، فَأَهْدَى مِائَةَ بَدَنَةٍ مُجَلِّلَةٍ، وَأَلْفَ شَاةٍ، وَأَوْقَفَ مَعَهُ بِعَرَفَاتٍ مِائَةَ وَصِيْفٍ فِي أَعْنَاقِهِمْ أَطَوِقَةُ الْفِضَّةِ، وَقَدْ نُقِشَ فِيهَا: هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللهِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، فَأَعْتَقَهُمْ وَأَهْدَى جَمِيعَ تِلْكَ الْأَنْعَامِ رِضَيَ اللهُ عَنْهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذَا الإِنْفَاقُ وَهَذَا العَطَاءُ كَانَ نَتِيجَةَ تَرْبِيَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِسَيِّدِنَا حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

بَعْدَ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ سَأَلَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الغَنَائِمِ، فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ، حَتَّى بَلَغَ مَا أَخَذَهُ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَهُوَ كَمَا عَرَفْنَا حَدِيثُ إِسْلَامٍ حِينَها.

روى الإمام البخاري عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ، فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ، فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ: «يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى».

قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، لَا أَرْزَأُ أَحَدَاً (لَا أُنْقِصُ مَالَ أَحَدٍ بِالأَخْذِ مِنْهُ) بَعْدَكَ شَيْئَاً حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا.

فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَدْعُو حَكِيمَاً إِلَى العَطَاءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ.

ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئَاً، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ، أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدَاً مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تُوُفِّيَ.

مَا أَعْظَمَ هَذِهِ التَّرْبِيَةَ، وَمَا أَسْرَعَ اسْتِجَابَةَ المُرَبَّى مَعَ المُرَبِّي العَظِيمِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ مَاسَّةٍ إلى هَذِهِ التَّرْبِيَةِ، بَلْ كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ مَاسَّةٍ إلى تَقْوِيَةِ الإِيمَانِ بِاللهِ تعالى وَبِاليَوْمِ الآخِرِ، لَعَلَّ اللهَ تعالى يُخْرِجُ مِنْ قُلُوبِنَا حُبَّ الدُّنْيَا التي أَضَرَّتْ بِآخِرَتِنَا؟

أَلَمْ يَقُلْ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى»؟ رواه الإمام أحمد والحاكم عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

لَقَدْ تَنَافَسَ النَّاسُ عَلَى الدُّنْيَا بِسَبَبِ ضَعْفِ الإِيمَانِ، وَنَسِيَ البَعْضُ أَو تَنَاسَى قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» رواه الشيخان عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَقَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لَا يُبَالِي المَرْءُ بِمَا أَخَذَ المَالَ، أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

اللَّهُمَّ ردَّنَا إِلَيْكَ رَدَّاً جَمِيلَاً. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 26/ شوال /1438هـ، الموافق: 20/ تموز / 2017م

 

مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

105ـ بيع دار الندوة وإنفاق ثمنها

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ مَنْ خَالَطَ الإِيمَانُ بَشَاشَةَ قَلْبِهِ، وَذَاقَ حَلَاوَتَهُ، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَهْجُرَ الطَّاعَاتِ وَالقُرُبَاتِ، فَتَرَاهُ أَخْرَجَ مِنْ قَلْبِهِ حُبَّ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا وَزَخَارِفَهَا، وَهَانَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا، وَبَذَلَهَا في سَبِيلِ مَرْضَاتِ اللهِ تعالى، وَامْتَثَلَ قَوْلَهُ تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾.

هَذِهِ حَقِيقَةٌ لَا يَجْهَلُهَا أَحَدٌ؛ فَهِرَقْلُ عَظِيمُ الرُّومِ عَرَفَ أَنَّهُ مَنْ ذَاقَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ، وَعَرَفَ طَعْمَهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ دِينِهِ أَبَدَاً، أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا أَمْ أَدْبَرَتْ، وَمَهْمَا فُعِلَ بِهِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ ذَاقَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ بِاللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ، خَرَجَ مِنْ قَلْبِهِ حُبُّ الدُّنْيَا، فَأَقْبَلَ بِالإِنْفَاقِ في سَبِيلِ اللهِ عَلَى قَدْرِ إِيمَانِهِ بِاللهِ تعالى وَبِاليَوْمِ الآخِرِ، لِأَنَّهُ عَرَفَ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾.

وَعَرَفَ قَوْلَهُ تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾.

إِنْفَاقُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: سَيِّدُنَا حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الذي كَانَ صَدِيقَاً لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في أَيَّامِ جَاهِلِيَّتِهِ، وَعَرَفَ صِدْقَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَمَانَتَهُ، لِحِكْمَةٍ أَرَادَهَا اللهُ تعالى أَنْ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ إلى عَامِ فَتْحِ مَكَّةَ.

أَرَادَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ابْنُ أَخِي أُمِّ المُؤْمِنِينَ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ الكُبْرَى رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عِنْدَمَا أَسْلَمَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ تَقْصِيرِهِ وَعَنْ جَمِيعِ مَوَاقِفِهِ السَّابِقَةِ التي كَانَتْ في الجَاهِلِيَّةِ، وَأَرَادَ أَنْ يُسْدِلَ سِتَارَاً مِنَ النِّسْيَانِ عَلَى ذَلِكَ المَاضِي البَغِيضِ، وَذَلِكَ بِالإِنْفَاقِ في سَبِيلِ اللهِ تعالى، وَآلَى عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ.

بَيْعُ دَارِ النَّدْوَةِ وَإِنْفَاقُ ثَمَنِهَا:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَ بِيَدِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حِينَ أَسْلَمَ الرِّفَادَةُ وَدَارُ النَّدْوَةِ، فَبَاعَهَا بَعْدُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِمِائَةِ أَلْفٍ، وَفِي رِوَايَةٍ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ.

فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: بِعْتَ مَكْرُمَةَ قُرَيْشٍ؟

فَقَالَ لَهُ حَكِيمٌ: ابْنَ أَخِي، ذَهَبَتِ المَكَارِمُ فَلَا كَرَمَ إِلَّا التَّقْوَى؛ يَا ابْنَ أَخِي، إِنِّي اشْتَرَيْتُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِزِقِّ خَمْرٍ، وَلَأَشْتَرِيَنَّ بِهَا دَارَاً فِي الْجَنَّةِ، أُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ جَعَلْتُهَا فِي سَبِيلِ اللهِ.

وَهَذِهِ الدَّارُ كَانَتْ لِقُرَيْشٍ بِمَنْزِلَةِ دَارِ الْعَدْلِ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ صَارَ سِنُّهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، إِلَّا حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ فَإِنَّهُ دَخَلَهَا وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. /البداية والنهاية/

مِئَةُ بَدَنَةٍ مُجَلَّلَةٌ أَنْفَقَهَا في سَبِيلِ اللهِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الإِنْفَاقُ في سَبِيلِ اللهِ تعالى يَكُونُ عَلَى قَدْرِ الإِيمَانِ بِاللهِ تعالى وَبِاليَوْمِ الآخِرِ، فَكُلَّمَا عَظُمَ الإِيمَانُ كُلَّمَا عَظُمَ الإِنْفَاقُ.

فَسَيِّدُنَا حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَرَادَ أَنْ يَسْتَغِلَّ الأَيَّامَ التي أَكْرَمَهُ اللهُ تعالى بِهَا في إِسْلَامِهِ بِكَثْرَةِ الإِنْفَاقِ في سَبِيلِ اللهِ تَدَارُكَاً لِمَا فَاتَهُ، وَهَذَا شَأْنُ العُقَلَاءِ مِمَّنْ قَرَأَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾. فَإِنَّهُ يـُسْرِعُ للإِنْفَاقِ لَا لِتَكْدِيسِ الأَمْوَالِ وَجَمْعِهَا، وَتَرْكِهَا للذُّرِّيَّةِ مِنْ بَعْدِهِ، لِأَنَّ العَاقِلَ يُحِبُّ الخَيْرَ لِنَفْسِهِ في دَارِ البَقَاءِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: ذَكَرَ الزُّبَيْرُ أَنَّ حَكِيمَاً حَجَّ عَامَاً، فَأَهْدَى مِائَةَ بَدَنَةٍ مُجَلِّلَةٍ، وَأَلْفَ شَاةٍ، وَأَوْقَفَ مَعَهُ بِعَرَفَاتٍ مِائَةَ وَصِيْفٍ فِي أَعْنَاقِهِمْ أَطَوِقَةُ الْفِضَّةِ، وَقَدْ نُقِشَ فِيهَا: هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللهِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، فَأَعْتَقَهُمْ وَأَهْدَى جَمِيعَ تِلْكَ الْأَنْعَامِ رِضَيَ اللهُ عَنْهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذَا الإِنْفَاقُ وَهَذَا العَطَاءُ كَانَ نَتِيجَةَ تَرْبِيَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِسَيِّدِنَا حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

بَعْدَ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ سَأَلَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الغَنَائِمِ، فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ، حَتَّى بَلَغَ مَا أَخَذَهُ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَهُوَ كَمَا عَرَفْنَا حَدِيثُ إِسْلَامٍ حِينَها.

روى الإمام البخاري عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ، فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ، فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ: «يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى».

قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، لَا أَرْزَأُ أَحَدَاً (لَا أُنْقِصُ مَالَ أَحَدٍ بِالأَخْذِ مِنْهُ) بَعْدَكَ شَيْئَاً حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا.

فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَدْعُو حَكِيمَاً إِلَى العَطَاءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ.

ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئَاً، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ، أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدَاً مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تُوُفِّيَ.

مَا أَعْظَمَ هَذِهِ التَّرْبِيَةَ، وَمَا أَسْرَعَ اسْتِجَابَةَ المُرَبَّى مَعَ المُرَبِّي العَظِيمِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ مَاسَّةٍ إلى هَذِهِ التَّرْبِيَةِ، بَلْ كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ مَاسَّةٍ إلى تَقْوِيَةِ الإِيمَانِ بِاللهِ تعالى وَبِاليَوْمِ الآخِرِ، لَعَلَّ اللهَ تعالى يُخْرِجُ مِنْ قُلُوبِنَا حُبَّ الدُّنْيَا التي أَضَرَّتْ بِآخِرَتِنَا؟

أَلَمْ يَقُلْ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى»؟ رواه الإمام أحمد والحاكم عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

لَقَدْ تَنَافَسَ النَّاسُ عَلَى الدُّنْيَا بِسَبَبِ ضَعْفِ الإِيمَانِ، وَنَسِيَ البَعْضُ أَو تَنَاسَى قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» رواه الشيخان عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَقَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لَا يُبَالِي المَرْءُ بِمَا أَخَذَ المَالَ، أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

اللَّهُمَّ ردَّنَا إِلَيْكَ رَدَّاً جَمِيلَاً. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 26/ شوال /1438هـ، الموافق: 20/ تموز / 2017م