558ـ خطبة الجمعة: الأمة أمة إسناد

 

558ـ خطبة الجمعة: الأمة أمة إسناد

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: مَا أَنْزَلَ اللهُ تعالى كِتَابَاً مِنَ السَّمَاءِ عَلَى نَبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ أَعْظَمَ وَأَجَلَّ مِنَ القُرْآنِ العَظِيمِ، الذي أَنْزَلَهُ عَلَى قَلْبِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بِوَاسِطَةِ سَيِّدِنَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمِينِ السَّمَاءِ، في خَيْرِ لَيْلَةٍ، هِيَ لَيْلَةُ القَدْرِ، وَفِي شَهْرٍ هُوَ خَيْرُ الشُّهُورِ شَهْرُ رَمَضَانَ.

لَقَدْ أَنْزَلَهُ اللهُ تعالى وَتَوَلَّى حِفْظَهُ بِذَاتِهِ العَلِيَّةِ، فَقَالَ تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾. وَحَرِيٌّ بِمَنْ حَفِظَهُ، وَتَدَبَّرَهُ، وَقَرَأَهُ، وَتَلَاهُ، وَقَامَ بِهِ، وَعَمِلَ بِهِ، وَآمَنَ بِمُتَشَابِهِهِ، وَعَمِلَ بِمُحْكَمِهِ، أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ اللهِ وَخَاصَّتِهِ مِنْ خَلْقِهِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام أحمد والحاكم عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ للهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ».

قَالُوا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ».

الأُمَّةُ أُمَّةُ إِسْنَادٍ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ فَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا أَنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ أُمَّةُ الإِسْنَادِ دُونَ بَقِيَّةِ الأُمَمِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «تَسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ، وَيُسْمَعُ مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْكُمْ» رواه الإمام أحمد والحاكم وأبو داود عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

وَالإِسْنَادُ: هُوَ أَنْ تَقُولَ: حَدَّثَنَا فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ، إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ خَصَّ اللهُ تعالى لِأُمَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هَذَا الإِسْنَادَ، وَلَوْلَا الإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ.

وَكَانَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى يَقُولُ: مَثَلُ الذي يَطْلُبُ العِلْمَ بِلَا إِسْنَادٍ مَثَلُ حَاطِبِ لَيْلٍ، لَعَلَّ فِيهَا أَفْعَى تَلْدَغُهُ، وَهُوَ لَا يَدْرِي.

الدِّينُ مَحفُوظٌ مِنْ قِبَلِ اللهِ تعالى:

يَا عِبَادَ اللهِ: عِنْدَمَا كَانَ القُرْآنُ مَحْفُوظَاً، وَهَذَا يَعْنِي حِفْظَ الدِّينِ بِفَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، بَيَّنَ اللهُ تعالى أَنَّ هَذَا القُرْآنَ ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾.

فَهَلْ نَحْنُ مَاضُونَ عَلَى هَذِهِ الهِدَايَةِ التي قَالَ تعالى فِيهَا: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾؟ وَهَلْ نَحْنُ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ الذي سَلَكَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ وَهَلْ نَحْنُ صَابِرُونَ عَلَى مَا نَلْقَاهُ وَيَلْقَانَا؟ وَهَلْ نَحْنُ مَاضُونَ وَجَادُّونَ حَتَّى نَلْقَى اللهَ تعالى مِنْ غَيْرِ تَبْدِيلٍ وَلَا تَحْرِيفٍ، حَتَّى يَنْطَبِقَ عَلَيْنَا قَوْلُهُ تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلَاً﴾؟

يَا عِبَادَ اللهِ: عَلَيْنَا أَنْ نُدْرِكَ جَيِّدَاً أَنَّ دِينَ اللهِ تعالى لَا خَوْفٌ عَلَيْهِ أَبَدَاً، وَقُرْآنَ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِ أَبَدَاً، وَسُنَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهَا أَبَدَاً؛ إِنَّمَا الخَوْفُ عَلَيْنَا، الخَوْفُ عَلَى أَنْفُسِنَا، هَلْ نَظَلُّ مُقْتَدِينَ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَمْ نَتَهَاوَنُ بِذَلِكَ، أَو نَضْعُفُ عَنْ مُتَابَعَتِهِ، وَرَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لَنَا: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. وَسَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى».

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟

قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى»؟ رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنُقْبِلْ عَلَى تِلَاوَةِ كِتَابِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ تِلَاوَةَ تَدَبُّرٍ وَعَمَلٍ، وَلْنَجْعَلْهُ أَنِيسَاً لَنَا في وَحْدَتِنَا، وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

يَـا أَنِـيسِي إِذَا جَـلَسْـتُ وَحِـيدَاً   ***   نَـائِـيَـاً عَـنْ أَحِـبَّتِي وَصِــحَـابِي

يَا سَـمِيرِي في مُوحِشَاتِ اللَّيَالِي   ***   وَرَفِـيـقِـي في رِحْـلَتِي وَاغْــتِرَابِي

جَـنَّتِـي أَنْـتَ كُـلَّمَا أَقْـفَرَ الكَوْنُ   ***   أَمَـامِـي بِـمِـحْـنَـةٍ أَو عَــــذَابِ

مَـنْ أَنَــا في مَجَـاهِـلِ الـكَـوْنِ؟   ***   لَوْلَا شَرَفُ الذِّكْرِ لِي في آيِ الكِتَابِ

كَيْفَ يَـلْقَى الشَّيْطَانُ مِنِّي مَنَالَاً   ***   وَخِطَابُ الرَّحْمَنِ حِـصْـنِي وَبَـابِي

وَظَلَامُ الـكَـوْنِ كَـيْفَ يُغَشِّينِي   ***   وَنُـورُ الـقُـرْآنِ تَـاجُ شَـــــــبَابِي

رُبَّ يَأْسٍ أَصَـابَـنِـي مِنْ ذُنُوبِي   ***   بَدَّدَتْـهُ أَلْـطَـافُ آيِ الــــــعَذَابِ

وَأَمَـانٍ مِـنَ الـهَوَى سَـاوَرَتْنِي   ***   أَبْـعَـدَتْهَـا آيَـاتُ يَـوْمِ الحِـــسَابِ

في رِحَابِ القُرْآنِ أَلْقَيْتُ رَحْـلِي   ***   وَبِـتَـرْتِـيـلِـهِ طَـوَيْـتُ مُــــصَابِي

ذَاكَ كَنْزِي إِنِ افْتَقَرْتُ وَفَجْرِي   ***   في الدَّيَاجِي وَمُنْقِذِي في الصِّـعَابِ

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الحَيَاةَ في رِحَابِ القُرْآنِ العَظِيمِ نِعْمَةٌ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا مَنْ ذَاقَهَا، فَبِنِعْمَةِ القُرْآنِ يُبَارَكُ لَنَا في أَعْمَارِنَا، وَفي أُصُولِنَا وَفُرُوعِنَا، وَفي أَوْطَانِنَا، وَأَمْوَالِنَا، وَمُمْتَلَكَاتِنَا، وَبِهِ نَعِيشُ حَيَاةً طَيِّبَةً مُبَارَكَةً.

لِنَكُن خَيْرَ خَلَفٍ لِخَيْرِ سَلَفٍ، فَقَدْ عَاشَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ في رِحَابِ القُرْآنِ العَظِيمِ صَبَاحَاً وَمَسَاءً.

اللَّهُمَّ اجْعَلِ القُرْآنَ العَظِيمَ رَبِيعَ قُلُوبِنَا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 19/ ذو القعدة /1438هـ، الموافق: 11/ آب / 2017م