585ـ خطبة الجمعة: سبب انحراف الأبناء والآباء

 

585ـ خطبة الجمعة: سبب انحراف الأبناء والآباء

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: أَوْلَادُنَا أَمَانَةٌ في أَعْنَاقِنَا، وَنَحْن مَسْؤُولُونَ عَنْهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَحْرُمُ عَلَيْنَا شَرْعَاً أَنْ نَتْرُكَهُمْ هَمَلَاً، وَلَا نَرْعَاهُمْ رِعَايَةً كَامِلَةً، يَحْرُمُ عَلَيْنَا تَرْكُهُمْ بِدُونِ نَصِيحَةٍ بِأُسْلُوبٍ حَكِيمٍ، وَيَحْرُمُ عَلَيْنَا أَنْ نَتْرُكَ لَهُمُ الحَبْلَ عَلَى الغَارِبِ، يَحْرُمُ عَلَيْنَا أَنْ تَشْغَلَنَا الدُّنْيَا عَنْ تَرْبِيَتِهِمْ، وَيَحْرُمُ عَلَيْنَا أَنْ نُسْلِمَهُمْ للشَّارِعِ، وَلِمَوَاقِع التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيِّ، وَقُرَنَاءِ السُّوءِ، يَحْرُمُ عَلَيْنَا أَنْ نَدَعَهُمْ كَالأَغْنَامِ السَّائِبَةِ.

أَكْثَرُ شَبَابِنَا اليَوْمَ لَا يَعْرِفُونَ المَسَاجِدَ، وَلَا يَعْرِفُونَ تِلَاوَةَ القُرْآنِ الكَرِيمِ، وَلَا يَعْرِفُونَ مَجَالِسَ العِلْمِ، وَمَجَالِسَ الذِّكْرِ، وَمَجَالِسَ الصَّالِحِينَ؛ وَمَنْ شَبَّ عَلَى شَيْءٍ شَابَ عَلَيْهِ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ تعالى.

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ أَجْرَمَ الكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ في حَقِّ أَوْلَادِهِمْ مُنْذُ نُعُومَةِ أَظْفَارِهِمْ، أَهْمَلُوا تَرْبِيَتَهُمْ، وَأَسْلَمُوهُمْ لِشَيَاطِينِ الإِنْسِ وَالجِنِّ، مِنْ خِلَالِ مَوَاقِع التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيِّ، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانَاً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾. أَبْنَاءُ الكَثِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ يَتَلَقَّفُونَ تَرْبِيَتَهُمْ وَثَقَافَتَهُمْ مِنْ خِلَالِ مَوَاقِع التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيِّ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.

سَبَبُ انْحِرَافِ الأَبْنَاءِ وَالآبَاءِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: أَبْنَاؤُنَا أَفْلَاذُ أَكْبَادِنَا، أَبْنَاؤُنَا سِرُّ سَعَادَتِنَا، أَبْنَاؤُنَا الذينَ احْتَرَقَتْ قُلُوبُنَا حَتَّى شَاهَدْنَاهُمْ، أَبْنَاؤُنَا الذينَ هُمْ عَوْنُنَا عِنْدَ شَيْخُوخَتِنَا؛ لَقَدْ خَسِرْنَاهُمْ في هَذِهِ الآوِنَةِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ تعالى.

وَاللهِ مَا ضَلَّ مَنْ ضَلَّ مِنَ الأَبْنَاءِ وَالبَنَاتِ، وَمَا شَقِيَ مَنْ شَقِيَ مِنْهُمْ، وَمَا انْحَرَفَ مَنِ انْحَرَفَ مِنْهُمْ، وَمَا شَذَّ مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ، وَمَا عَاثَ في الأَرْضِ فَسَادَاً مَنْ عَاثَ مِنْهُمْ بَغْتَةً أَو فَجْأَةً أَو بَيْنَ عَشِيَّةٍ وَضُحَاهَا؛ إِنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبَاً.

وَسَامِحُونِي أَنْ أَتَحَدَّثَ إِلَيْكُمْ بِصَرَاحَةٍ وَبِصِدْقٍ، وَأَنْ أَقُولَ: إِنَّ السَّبَبَ الأَوَّلَ في ضَلَالِ وَانْحِرَافِ وَشَقَاءِ وَشُذُوذِ الأَوْلَادِ بِشَكْلٍ عَامٍّ هُمُ الآبَاءُ وَالأُمَّهَاتُ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ تعالى؛ وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

فَإِنْ كُنْتَ لَا تَدْرِي فَتِلْكَ مُصِيبَةٌ   ***   وَإِنْ كُنْتَ تَدْرِي فَالمُصِيبَةُ أَعْظَمُ

يَا عِبَادَ اللهِ: نَحْنُ مَا قَصَّرْنَا نَحْوَ أَبْنَائِنَا مِنْ حَيْثُ المَادَّةُ، كُنَّا خُدَّامَاً لَهُمْ في سَبِيلِ مَطْعَمِهِمْ وَمَـشْرَبِهِمْ وَمَلْبَسِهِمْ، وَلَكِنَّ الكَثِيرَ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَهْمَلَ جَانِبَ التَّرْبِيَةِ، وَتَخَلَّى عَنْ وِلَايَتِهِ وَرِعَايَتِهِ لِأَبْنَائِهِ وَبَنَاتِهِ، وَنَـسِيَ الكَثِيرُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارَاً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾. وَقَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا» رواه الشيخان عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

الكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَسْلَمُوا أَبْنَاءَهُمْ لُقْمَةً سَائِغَةً للذِّئَابِ البَشَرِيَّةِ مِنْ شَيَاطِينِ الإِنْسِ عَنْ طَرِيقِ مَوَاقِع التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيِّ وَالنِّتِّ الذي أَفْسَدَ العِبَادَ وَالبِلَادَ، هَذِهِ الأَجْهِزَةُ التي غَزَتْ بُيُوتَ المُسْلِمِينَ وَأَدْخَلَتْ فِيهَا المُنْكَرَاتِ وَالمَعَاصِيَ في جُنْحِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، وَسَادَتْ تِلْكَ المُنْكَرَاتُ وَتَصَدَّرَتْ في بُيُوتِ الكَثِيرِ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى تَمَكَّنَتْ في الأَبْنَاءِ وَالبَنَاتِ، بَلْ وَاسْمَحُوا أَنْ أَقُولَهَا بِصَرَاحَةٍ: حَتَّى تَمَكَّنَتْ في الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ قَبْلَ الأَبْنَاءِ وَالبَنَاتِ، وَالعِيَاذُ بِاللهِِ تعالى.

يَا عِبَادَ اللهِ: الجَمِيعُ يَتَحَدَّثُ عَنْ فَسَادِ الشَّبَابِ وَالشَّابَّاتِ بِسَبَبِ هَذِهِ المَوَاقِع مَوَاقِع التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيِّ، وَالعَجِيبُ أَنَّ أَكْثَرَ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ سَلَّمُوا لِأَبْنَائِهِمْ وَبَنَاتِهِمْ هَذِهِ الأَجْهِزَةَ بِدُونِ مُرَاقَبَةٍ وَبِدُونِ نُصْحٍ وَلَا تَذْكِيرٍ.

مَنْ قَالَ لِوَلَدِهِ وَلِابْنَتِهِ عِنْدَمَا جَاءَهُمَا بِتِلْكَ الأجْهِزَةِ: تَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبَاً﴾. وَقَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾. وَقَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى﴾. وَقَوْلَ اللهِ تعالى حِكَايَةً عَنْ سَيِّدِنَا لُقْمَانَ وَهُوَ يُرَبِّي وَلَدَهُ: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾؟

مَنْ مِنَّا يُذَكِّرُ وَلَدَهُ بِمُرَاقَبَةِ اللهِ تعالى صَبَاحَاً وَمَسَاءً، وَيَقُولُ لَهُ: تَذَكَّرْ: اللهُ شَاهِدِي، اللهُ نَاظِرِي، اللهُ مَعِيَ؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: احْفَظُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ﴾. وَقَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ، أَحَفِظَ أَمْ ضَيَّعَ؟ حَتَّى يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ» رواه ابن حبان عَنِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَقَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ، إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ» رواه الإمام البخاري عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَلْنَكُنْ عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ أَبْنَاءَنَا وَبَنَاتِنَا رَعِيَّتُنَا وَسَنُسْأَلُ عَنْهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ.

سَوْفَ نُسْأَلُ عَنْ نِسَائِنَا وَأَوْلَادِنَا وَبَنَاتِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلَقَدْ غَشَّ الكَثِيرُ مِنَ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ أَبْنَاءَهُمْ وَبَنَاتِهِمْ مِنْ حَيْثُ يَدْرُونَ أَو لَا يَدْرُونَ، عِنْدَمَا جَعَلُوا بُيُوتَهُمْ مَسْرَحَاً وَمُسْتَوْدَعَاً لِكُلِّ أَنْوَاعِ الفُجُورِ وَالفَسَادِ، بِقَصْدٍ أَو بِغَيْرِقَصْدٍ.

بِكُلِّ أَسَفٍ الكَثِيرُ مِنَ الأُمَّهَاتِ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، فَكَيْفَ سَتَكُونُ بَنَاتُهُنَّ؟ الكَثِيرُ مِنَ الرِّجَالَ سَلَكَ طَرِيقَ الانْحَرَافِ مِنْ خِلَالِ مَوَاقِع التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيِّ، فَكَيْفَ سَيَكُونُ الأَبْنَاءُ وَالبَنَاتُ؟ وَكُلُّ هَذَا مِنَ الغِشِّ للرَّعِيَّةِ.

رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامَاً. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 23/ جمادى الأولى /1439هـ، الموافق: 9/ شباط / 2018م