2ـ بر الوالدين :أليس الله يأمرك بصلة الرحم وبر الوالدين

 

بر الوالدين

2ـ أليس الله يأمرك بصلة الرحم وبر الوالدين

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: بِرُّ الوَالِدَيْنِ مِنْ أَحَبِّ الأَعْمَالِ إلى اللهِ تعالى، كَمَا أَنَّ العُقُوقَ مِنْ أَكْبَرِ الكَبَائِرِ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تعالى بِرَّ الوَالِدَيْنِ أَفْضَلَ مِنَ الجِهَادِ في سَبِيلِ اللهِ تعالى، وَحَذَّرَ العَبْدَ مِنَ الخُرُوجِ للجِهَادِ أَو للهِجْرَةِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْذَانِ الوَالِدَيْنِ.

لَقَدْ عَلَّمَنَا شَرْعُنَا الحَنِيفُ أَنَّ بِرَّ الوَالِدَيْنِ يَقُومُ مَقَامَ الجِهَادِ في سَبِيلِ اللهِ تعالى، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ أَنْ يُحْسِنَ لِوَالِدَيْهِ وَلَو كَانَا مُشْرِكَيْنِ وَأَنَّهُمَا أَوْسَطُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ.

كَمَا عَلَّمَنَا أَنَّ الوَلَدَ لا يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدِّيَ حَقَّ وَالِدَيْهِ مَهْمَا فَعَلَ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصِلَهُمَا وَإِنْ هَجَرَاهُ، وَعَلَّمَنَا أَنَّ رِضَاءَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتعالى في رِضَاهُمَا، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الإِحْسَانَ إِلَيْهِمَا حَتَّى يَصِلَ إلى البِرِّ.

أَلَيْسَ اللهُ يَأْمُرُكَ بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَبِرِّ الوَالِدَيْنِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ أَمَرَنَا اللهُ تعالى بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَبِرِّ الوَالِدَيْنِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ عِنْدَ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ، وَلَو كَانَا غَيْرَ مُسْلِمَيْنَ، فَلْنُعْطِ الصُّورَةَ الحَسَنَةَ عَنْ دِينِنَا في تَعَامُلِنَا مَعَ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ، وَلَكِنْ بِدُونِ مُدَاهَنَةٍ وَمُوَافَقَةٍ عَلَى مَعْصِيَةِ اللهِ تعالى.

روى الإمام أحمد عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي أَبِي أَرْبَعُ آيَاتٍ ......

قَالَ: وَقَالَتْ أُمِّي: أَلَيْسَ اللهُ يَأْمُرُكَ بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ؟ وَاللهِ لَا آكُلُ طَعَامَاً، وَلا أَشْرَبُ شَرَابَاً، حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ.

فَكَانَتْ لَا تَأْكُلُ حَتَّى يَشْجُرُوا فَمَهَا بِعَصَاً (أَيْ: يُدْخِلُوا عُودَاً) فَيَصُبُّوا فِيهِ الـشَّرَابَ وَالطَّعَامَ.

فَأُنْزِلَتْ: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنَاً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفَاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.

هَذِهِ الآيَةُ تُعَلِّمُ الأَبْنَاءَ بِأَنَّ وُقُوعَ الوَالِدَيْنِ في مَعْصِيَةِ اللهِ تعالى، بَلْ وُقُوعَهُمَا في أَكْبَرِ الكَبَائِرِ، لَا يُبِيحُ لَهُمْ نَهْرَ الوَالِدَيْنِ وَالإِخْلَالَ بِحَقِّهِمَا مِنَ الأَدَبِ وَاللِّينِ؛ وَمَنْ وَقَعَ بِسُوءِ الأَدَبِ مَعَهُمَا فَقَدْ أَخْطَأَ جَادَّةَ الصَّوَابِ، لِأَنَّهُ لَا أَعْظَمَ جُرْمَاً مِنَ الشِّرْكِ بِاللهِ تعالى وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَمَعَ هَذَا يَقُولُ اللهُ تعالى للأَبْنَاءِ: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفَاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.

﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَيُّ حَقٍّ أَعْظَمُ مِنْ حَقٍّ يَأْتِي تَالِيَاً مُبَاشَرَةً لِحَقِّ اللهِ تعالى، قَالَ تعالى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾. فَلَا يَتِمُّ شُكْرُ اللهِ تعالى إِلَّا بِشُكْرِ الوَالِدَيْنِ.

وَمِمَّا يَزِيدُ المَسْأَلَةَ وُضُوحَاً وَبَيَانَاً حَدِيثُ السَّيِّدَةِ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا الذي رواه الشيخان عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدَهُمْ فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّي؟

قَالَ: «نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ».

هَلْ سَمِعَ الأَبْنَاءُ وَالبَنَاتُ العَاقُّونَ لِآبَائِهِمْ وَلِأُمَّهَاتِهِمْ هَذَا الحَدِيثَ الشَّرِيفَ؟ وَهَلْ عَرَفَتِ الـبَشَرِيَّةُ جَمْعَاءَ قَدْرَاً وَمَكَانَةً أَرْفَعَ مِنْ مَكَانَةِ الوَالِدَيْنِ في دِينِنَا الحَنِيفِ؟

مَوْقِفُ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ مِنْ أَبِيهِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إلى أَنْ نَتَعَلَّمَ مِنْ كِتَابِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ وَمِنْ سُنَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الأَدَبَ مَعَ الوَالِدَيْنِ مَهْمَا كَانَ حَالُهُمَا.

قُولُوا لِمَنْ أَرَادَ الوُصُولَ إلى اللهِ تعالى، وَلِمَنْ أَرَادَ جَنَّةَ اللهِ تعالى، وَلِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ أَوْلَادُهُ بَرَرَةً بِهِ: تَعَلَّمُوا الأَدَبَ مِنْ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ وَالِدِهِ.

قَالَ تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقَاً نَبِيَّاً﴾.

سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَيْخُ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، وَهُوَ الصِّدِّيقُ وَخَلِيلُ الرَّحْمَنِ، يُعَلِّمُ الأَبْنَاءَ كَيْفَ يَكُونُ الأَدَبُ مَعَ الآبَاءِ، مَهْمَا كَانَتْ مَنْزِلَةُ الوَلَدِ عَالِيَةً، وَمَهْمَا كَانَتْ مَنْزِلَةُ الأَبِ مُتَدَنِّيَةً في عَقِيدَتِهِ وَأَدَبِهِ وَأَخْلَاقِهِ.

قَالَ تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئَاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطَاً سَوِيَّاً * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيَّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيَّاً﴾.

مُنْتَهَى الأَدَبِ، وَمُنْتَهَى الأَخْلَاقِ، وَمُنْتَهَى القِيَمِ، وَمُنْتَهَى التَّوَاضُعِ، خَاطَبَ أَبَاهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ أَبُوهُ بِأُسْلُوبٍ فَظٍّ غَلِيظٍ شَدِيدٍ مَعَ الصَّلَافَةِ وَالقَسْوَةِ، فَقَالَ لِسَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ: ﴿أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيَّاً﴾.

فَمَاذَا كَانَ المَوْقِفُ مِنْ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الأَوَّاهُ الحَلِيمُ الرَّشِيدُ؟ ﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيَّاً﴾. أَدَبٌ وَتَلَطُّفٌ مَعَ أَبِيهِ ـ وَلَو كَانَ كَافِرَاً ـ أَيْنَ أَبْنَاءُ هَذَا الجِيلِ مِنْ هَذِهِ الآدَابِ وَالأَخْلَاقِ؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ عَلَّمَنَا شَرْعُنَا الحَنِيفُ أَنَّ حَقَّ الأَبَوَيْنِ لَا يَسْقُطُ في حَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ، حَتَّى لَو كَانَا مُشْرِكَيْنِ، احْفَظُوا أَيُّهَا الأَبْنَاءُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُـشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفَاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.

حَافِظُوا عَلَى حُقُوقِ آبَائِكُمْ وَأُمَّهَاتِكُمْ، وَخَاصَّةً الأُمَّ؛ وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

لِأُمِّك حَـقٌّ لَـوْ عَـلِـمْـت كَـبِـيـرُ   ***   كَـثِـيـرُكَ يَــــا هَذَا لَدَيْهِ يَسِيرُ

فَـكَـمْ لَـيْـلَةٍ بَاتَتْ بِثِقَلِك تَشْتَكِي   ***   لَهَا مِـنْ جَـوَاهَـا أَنَّـةٌ وَزَفِـيــرُ

وَفِي الْوَضْعِ لَوْ تَدْرِي عَلَيْهَا مَشَقَّةٌ   ***   فَمِنْ غُصَصٍ مِنْهَا الْفُؤَادُ يَطِيرُ

وَكَمْ غَسَلَتْ عَنْك الْأَذَى بِيَمِينِهَا    ***   وَمَا حِجْرُهَا إلَّا لَـدَيْك سَـرِيرُ

وَتَـفْـدِيـكَ مِمَّا تَـشْـتَكِيـهِ بِنَفْسِهَا   ***   وَمِنْ ثَدْيِهَا شُرْبٌ لَـدَيْك نَمِـيرُ

وَكَمْ مَرَّةٍ جَاعَتْ وَأَعْطَتْك قُوتَهَا    ***   حُنُوَّاً وَإِشْفَاقَاً وَأَنْتَ صَـــغِـيرُ

فَآهًا لِذِي عَقْلٍ وَيَتْبَعُ الْهَـــــوَى   ***   وَآهَاً لِأَعْمَى الْقَلْبِ وَهُوَ بَصِيرُ

فَدُونَك فَارْغَبْ فِي عَمِيمِ دُعَائِهَا   ***   فَأَنْتَ لِمَا تَـدْعُـو إلَـيْـهِ فَـقِــــيرُ

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِبِرِّهِمَا أَحْيَاءً وَمَيْتِينَ. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 25/ جمادى الأولى /1439هـ، الموافق: 11/ شباط / 2018م