3ـ بر الوالدين:النفوس جبلت على حب من أحسن إليها

 

بر الوالدين

3ـ النفوس جبلت على حب من أحسن إليها

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَو نَظَرْنَا في كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ نَظْرَةَ تَأَمُّلٍ وَتَدْقِيقٍ، فَإِنَّا نَجِدُ الحَقَّ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ أَوْصَى بِالوَالِدَيْنِ في آيَاتٍ كَثِيرَةٍ تَتْرَى، وَجَاءَتْ هَذِهِ الآيَاتُ بَعْدَ الآيَاتِ التي تَأْمُرُ الأُمَّةَ بِالتَّوْحِيدِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الإِحْسَانِ للوَالِدَيْنِ، وَالتَّأْكِيدِ عَلَى بِرِّهِمَا، وَالعِنَايَةِ بِهِمَا، وَالتَّحْذِيرِ مِنْ عُقُوقِهِمَا.

لَقَدْ أَكَّدَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ في شَرْعِهِ الحَنِيفِ عَلَى الأَدَبِ مَعَ الوَالِدَيْنِ، وَأَوْلَاهُمَا بِخُصُوصِيَّاتٍ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِمَا، وَجَاءَ ذَلِكَ في سَبْعِ سُوَرٍ مِنَ القُرْآنِ الكَرِيمِ، سَوَاءٌ ذَلِكَ في العَهْدِ المَكِّيِّ، أَو العَهْدِ المَدَنِيِّ، وَسَوَاءٌ في هَذِهِ الأُمَّةِ، أَو فِيمَنْ سَبَقَهَا مِنَ الأُمَمِ السَّابِقَةِ.

الوَصِيَّةُ بِبِرِّ الوَالِدَيْنِ في القُرْآنِ العَظِيمِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَعْلَمْ جَمِيعَاً أَنَّ مِنْ عَظِيمِ مَكَانَةِ الوَالِدَيْنِ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعُلُوِّ شَأْنِهِمَا، وَأَنَّهُمَا أَوْلَى أَنْ يَنَالَا العَطْفَ وَالبِرَّ وَالإِحْسَانَ، أَوْصَى اللهُ تعالى بِهِمَا جَمِيعَ الأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَخَاصَّةً أُمَّةَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

قَالَ تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانَاً﴾. (البقرة 83).

وَقَالَ تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئَاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانَاً﴾. (النساء 36).

وَقَالَ تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئَاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانَاً﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانَاً﴾. (الإسراء 23).

وَقَالَ تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنَاً﴾. (العنكبوت 8).

وَقَالَ تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانَاً﴾. (الأحقاف 15).

وَقَالَ تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنَاً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفَاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾. (لقمان 14).

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: آيَاتٌ صَرِيحَةٌ يُوصِي اللهُ تعالى الأَوْلَادَ بِالوَالِدَيْنِ، فَإِذَا كَانَ الحَقُّ جَلَّ جَلَالُهُ أَوْصَى الأُمَمَ السَّابِقَةَ بِالوَالِدَيْنِ، فَهَذِهِ الأُمَّةُ هِيَ أَوْلَى بِبِرِّ الوَالِدَيْنِ مِنْ جَمِيعِ الأُمَمِ، وَإِذَا كَانَتِ الأُمَمُ السَّابِقَةُ ضَيَّعَتْ حُقُوقَ الوَالِدَيْنِ، فَلَا يَلِيقُ بِالإِنْسَانِ المُسْلِمِ أَنْ يُضَيِّعَ حُقُوقَ وَالِدَيْهِ؛ وَلْيَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْ تَقْلِيدِ هَؤُلَاءِ الذينَ خَانُوا الأَمَانَةَ وَخَانُوا الوَصِيَّةَ فَفَرَّطُوا في حَقِّ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، حَتَّى وَصَلُوا إلى مَرْحَلَةٍ مُتَدَنِّيَةٍ، بِأَنْ لَا يَتَعَرَّفَ الوَلَدُ عَلَى أُمِّهِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً في العَامِ، في يَوْمِ عِيدِ الأُمِّ؛ وَأَمَّا الأَبُ، فَقَدْ صَارَ عِنْدَهُمْ نَسْيَاً مَنْسِيَّاً.

احْذَرُوا يَا شَبَابَ هَذِهِ الأُمَّهِ وَيَا شَابَّاتِهَا مِنْ سُلُوكِ طَرِيقِ هَؤُلَاءِ القَوْمِ، وَاسْمَعُوا حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي يُعْتَبَرُ مُعْجِزَةً مِنْ مُعْجِزَاتِهِ، عِنْدَمَا قَالَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرَاً بِشِبْرٍ، وَذِرَاعَاً بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ».

قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟

قَالَ: «فَمَنْ؟» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَهَلْ مِنَ المَعْقُولِ أَنْ يَسْلُكَ المُؤْمِنُ سَبِيلَ هَؤُلَاءِ الذينَ تَنَكَّرُوا لِآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ؟

النُّفُوسُ جُبِلَتْ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: جُبِلَتِ النُّفُوسُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا، وَتَعَلَّقَتِ القُلُوبُ بِصَاحِبِ الطَّوْلِ وَالفَضْلِ وَالمُتَفَضِّلِ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ أَعْظَمَ إِحْسَانَاً، وَلَا أَكْبَرَ تَطَوُّلَاً بَعْدَ اللهِ تعالى مِنَ الوَالِدَيْنِ.

لَقَدْ أَحْسَنَ كُلٌّ مِنَ الوَالِدَيْنِ للوَلَدِ مُنْذُ البِدَايَةِ بِكُلِّ وُجُوهِ الإِحْسَانِ، وَكَانَ لِإِحْسَانِهِمَا الأَثَرُ البَارِزُ، إلى أَنْ بَدَأَ النُّضُوجُ، وَتَفَتَّحَ الوَعْيُ، وَبَلَغَ الوَلَدُ أَشُدَّهُ؛ وَأَمَّا هُمَا فَقَدْ بَلَغَا نِهَايَةَ مَرْحَلَةِ الحَيَاةِ، فَتَطَلَّعَا لِرَدِّ الجَمِيلِ، تَطَلَّعَا إلى البِرِّ وَالإِحْسَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا، تَطَلَّعَا إلى الصِّلَةِ وَالمَعْرُوفِ، تَطَلَّعَا إلى تَنْفِيذِ وَصِيَّةِ اللهِ تعالى، وَوَصِيَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِيهِمَا، وَلَكِنْ فُوجِئَا بِمَا لَمْ يَكُنْ مُنْتَظَرَاً ـ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ تعالى ـ فُوجِئَا بِالعُقُوقِ وَالتَّنَكُّرِ للجَمِيلِ، فُوجِئَا بِمُقَابَلَةِ الإِحْسَانِ بِالإِسَاءَةِ، فُوجِئَا بِالتَّهَكُّمِ وَالاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ تُوَجَّهُ إِلَيْهِمَا مِمَّنْ كَانَا يَنْظُرَانِ إِلَيْهِ أَنَّهُ المُرْتَجَى بَعْدَ اللهِ تعالى، بَل وَبَعْضُهُمْ فُوجِئَ بِالضَّرْبِ مِمَّنْ كَانَ حَبِيبَهُمَا.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ تَنَاسَى الكَثِيرُ مِنَ الشَّبَابِ وَالشَّابَّاتِ مَاضِيَهُمْ، وَاعْتَزُّوا بِحَاضِرِهِمْ، وَأُعْجِبُوا بِشَبَابِهِمْ وَشُمُوخِ ثَقَافَتِهِمْ وَعِلْمِهِمْ، أَو بِمَالِهِمْ وَجَاهِهِمْ، أَو بِسُلْطَانِهِمْ وَسَعَةِ نُفُوذِهِمْ.

أُفٍّ لِوَلَدٍ نَسِيَ إِحْسَانَ وَالِدَيْهِ، أُفٍّ لِوَلَدٍ نَسِيَ مَاضِيَهُ، أُفٍّ لِوَلَدٍ اعْتَزَّ بِحَاضِرِهِ وَنَسِيَ أَبَوَيْهِ، أُفٍّ لِوَلَدٍ اعْتَزَّ بِشَبَابِهِ وَثَقَافَتِهِ وَعِلْمِهِ وَنَسِيَ وَالِدَيْهِ، أُفٍّ لِوَلَدٍ اعْتَزَّ بِمَالِهِ وَجَاهِهِ وَسُلْطَانِهِ وَنُفُوذِهِ وَنَسِيَ وَالِدَيْهِ.

أَيُّهَا الأَبْنَاءُ العَاقُّونَ، وَاللهِ أَنْتُمْ مَسَاكِينُ مَخْدُوعُونَ، وَتَصَرُّفُكُمْ هَذَا تَـصَرُّفُ العَبْدِ الطَّائِشِ الذي سَيَلْقَى جَزَاءَهُ عَاجِلَاً في حَيَاتِهِ الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ الذُّنُوبِ يُؤَخِّرُ اللهُ مَا شَاءَ مِنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، إِلَّا عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يُعَجِّلُهُ لِصَاحِبِهِ فِي الْحَيَاةِ قَبْلَ المَمَاتِ» رواه الحاكم عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنُعَاهِدِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَنْ نَعْمَلَ جَاهِدِينَ لِرَدِّ بَعْضِ الجَمِيلِ نَحْوَ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، لِنُعَاهِدِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى سَمَاعِ وَصِيَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَنَا.

روى الإمام البخاري في الأدب المفرد عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِآبَائِكُمْ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ».

وروى ابن ماجه عَنْ أَبِي سَلَامَةَ السَّلَامِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أُوصِي امْرَأً بِأُمِّهِ، أُوصِي امْرَأً بِأُمِّهِ، أُوصِي امْرَأً بِأُمِّهِ ـ ثَلَاثَاً ـ أُوصِي امْرَأً بِأَبِيهِ، أُوصِي امْرَأً بِمَوْلَاهُ الَّذِي يَلِيهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ مِنْهُ أَذَىً يُؤْذِيهِ».

وروى الإمام أحمد في المسند والبخاري في الأدب المفرد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا تَأْمُرُنِي؟

فَقَالَ: «بِرَّ أُمَّكَ».

ثُمَّ عَادَ، فَقَالَ: «بِرَّ أُمَّكَ».

ثُمَّ عَادَ، فَقَالَ: «بِرَّ أُمَّكَ».

ثُمَّ عَادَ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ: «بِرَّ أَبَاكَ».

اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بِهَذَا الشَّرَفِ العَظِيمِ، بِشَرَفِ بِرِّ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا أَحْيَاءً وَمْيِتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 1/ جمادى الثانية /1439هـ، الموافق: 17/ شباط / 2018م