11ـ قُوَّةِ سَمْعِهِ الشَّرِيفِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

 

من كتاب سيدنا محمد رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

11ـ قُوَّةِ سَمْعِهِ الشَّرِيفِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللهَ تعالى أَعْطَى رَسُولَهُ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قُوَّةً في السَّمْعِ خَاصَّةً، فَكَانَ يَسْمَعُ مَا لَا يَسْمَعُ غَيْرُهُ، فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّتِ السَّمَاءُ (أَيْ: ظَهَرَ لَهَا صَوْتٌ مِنْ كَثْرَةِ المَلَائِكَةِ فَوْقَهَا، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الأَطِيطِ صَوْتُ الرَّحْلِ) وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدَاً للهِ، وَاللهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلَاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرَاً، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الفُرُشِ وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللهِ (تَسْتَغِيثُونَ وَتَلْجَأُونَ)» رواه الترمذي وأحمد وغيرهما.

وَمِنْ ذَلِكَ سَمَاعُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَتْحَ بَابِ السَّمَاءِ:

روى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الصَّفَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا جِبْرِيلُ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا أَمْسَى لِآلِ مُحَمَّدٍ سَفَّةٌ مِنْ دَقِيقٍ، وَلَا كَفٌّ مِنْ سَوِيقٍ».

فَلَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ سَمِعَ هَدَّةً مِنَ السَّمَاءِ أَفْزَعَتْهُ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَمَرَ اللهُ الْقِيَامَةَ أَنْ تَقُومَ؟».

قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَمَرَ اللهُ إِسْرَافِيلَ، فَنَزَلَ إِلَيْكَ حِينَ سَمِعَ كَلَامَكَ، فَأَتَاهُ إِسْرَافِيلُ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ سَمِعَ مَا ذَكَرَتْ، فَبَعَثَنِي إِلَيْكَ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ، وَأَمَرَنِي أَنْ يُعْرَضْنَ عَلَيْكَ، إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ أُسَيِّرَ مَعَكَ جِبَالَ تِهَامَةَ زُمُرُّدَاً ويَاقُوتَاً وَذَهَبَاً وَفِضَّةً فَعَلْتُ، فَإِنْ شِئْتَ نَبِيَّاً مَلِكَاً، وَإِنْ شِئْتَ نَبِيَّاً عَبْدَاً؟ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ أَنْ تَوَاضَعَ.

فَقَالَ: «بَلْ نَبِيَّاً عَبْدَاً» ـ ثَلَاثَاً ـ فَلَو أَنِّي قُلْتُ: نَبِيَّاً مَلِكَاً لَسَارَتِ الجِبَالُ مَعِيَ ذَهَبَاً.

قَالَ الحَافِظُ المُنْذِرِيُّ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَالبَيْهَقِيُّ في الزُّهْدِ وَغَيْرِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ أَيْضَاً في شَرْحِ الزَّرْقَانِيِّ، ثُمَّ أَوْرَدَ المُنْذِرِيُّ رِوَايَةَ ابْنِ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ أَيْضَاً.

وَمِنْ ذَلِكَ سَمَاعُهُ عَذَابَ المُشْرِكِينَ في قُبُورِهِمْ:

رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ، عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ وَنَحْنُ مَعَهُ، إِذْ حَادَتْ بِهِ فَكَادَتْ تُلْقِيهِ، وَإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ.

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ؟».

فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا.

قَالَ: «فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ؟».

قَالَ: مَاتُوا فِي الْإِشْرَاكِ.

فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا، لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ»

فَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ عَذَابَ المُعَذَّبِينَ في قُبُورِهِمْ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَوْلَا خَشْيَةَ أَنْ لَا يَدْفِنَ بَعْضُهُمْ بَعْضَاً إِذَا سَمِعُوا عَذَابَ القَبْرِ لَدَعَا اللهَ أَنْ يُسْمِعَهُمْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ إِذَا سَمِعُوا عَذَابَ القَبْرِ اعْتَرَاهُمُ الخَوْفُ وَالفَزَعُ، وَذَلِكَ مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَرْكِ دَفْنِ بَعْضِهِمْ مَخَافَةً مِنْ سَمَاعِ ذَلِكَ.

وَمِنْ ذَلِكَ سَمَاعُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هَدَّةَ صَخْرَةٍ هَوَتْ مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ:

فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صَوْتَاً هَالَهُ (أَفْزَعَهُ) فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا هَذَا الصَّوْتُ يَا جِبْرِيلُ؟».

فَقَالَ: هَذِهِ صَخْرَةٌ هَوَتْ مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ، مِنْ سَبْعِينَ عَامَاً، فَهَذَا حِينَ بَلَغَتْ قَعْرَهَا، فَأَحَبَّ اللهُ أَنْ يُسْمِعَكَ صَوْتَهَا، فَمَا رُئِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ ضاحِكَاً مِلْءَ فِيهِ، حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ. عَزَاهُ الحَافِظُ المُنْذِرِيُّ للطَّبَرَانِيِّ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَعَزَاهُ الحَافِظُ الزَّرْقَانِيُّ إلى ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ.

وَمِنْ ذَلِكَ سَمَاعُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَذَابَ المَقْبُورِينَ النَّمَّامِينَ وَالغَيَّابِينَ، والذينَ لَا يَسْتَنْزِهُونَ وَلَا يَسْتَتِرُونَ مِنَ البَوْلِ:

رَوَى البُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَبْرَيْنِ، فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا، فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ» (قَالَ العَلَّامَةُ الخَطَّابِيُّ قَوْلُهُ: «وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ»: إِنَّهُمَا لَمْ يُعَذَّبَا في أَمْرٍ كَانَ يَكْبُرُ عَلَيْهِمَا أَو يَشُقُّ فِعْلُهُ لَو أَرَادَا أَنْ يَفْعَلَاهُ وَهُوَ التَّنَزُّهُ مِنَ البَوْلِ وَتَرْكُ النَّمِيمَةِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ المَعْصِيَةَ في هَاتَيْنِ الخَصْلَتَيْنِ لَيْسَتْ بِكَبِيرَةٍ).

ثُمَّ قَالَ: «بَلَى كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ، وَكَانَ الآخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وروى الإمام أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ نَحْوَ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ قَالَ: فَكَانَ النَّاسُ يَمْشُونَ خَلْفَهُ.

قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ صَوْتَ النِّعَالِ وَقَرَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، فَجَلَسَ حَتَّى قَدَّمَهُمْ أَمَامَهُ، لِئَلَّا يَقَعَ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ مِنَ الْكِبْرِ، فَلَمَّا مَرَّ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ إِذَا بِقَبْرَيْنِ قَدْ دَفَنُوا فِيهِمَا رَجُلَيْنِ قَالَ: فَوَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَنْ دَفَنْتُمْ هَاهُنَا الْيَوْمَ».

قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، فُلَانٌ وَفُلَانٌ.

قَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ الْآنَ وَيُفْتَنَانِ فِي قَبْرَيْهِمَا».

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ فِيمَ ذَاكَ؟

قَالَ: «أَمَّا أَحَدُهُمَا: فَكَانَ لَا يَتَنَزَّهُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْآخَرُ: فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ».

وَأَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا، ثُمَّ جَعَلَهَا عَلَى الْقَبْرَيْنِ. قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، وَلِمَ فَعَلْتَ؟

قَالَ: «لِيُخَفَّفَ عَنْهُمَا».

قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، وَحَتَّى مَتَى هُمَا يُعَذَّبَانِ؟

قَالَ: «غَيْبٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَلَوْلَا تَمَرُّغُ (تَقَطُّعُ) قُلُوبِكُمْ أَوْ تَزَيُّدُكُمْ فِي الْحَدِيثِ لَسَمِعْتُمْ مَا أَسْمَعُ».

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 3/جمادى الثانية /1439هـ، الموافق: 19/ شباط / 2018م