587ـ خطبة الجمعة: الخوف على الذرية من الضياع واجب شرعي

 

587ـ خطبة الجمعة: الخوف على الذرية من الضياع واجب شرعي

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: الذُّرِّيَّةُ نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ تعالى عَلَى العَبْدِ يَسْتَحِقُّ الحَمْدَ عَلَيْهَا، وَهَذَا مَا أَرْشَدَنَا إِلَيْهِ سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَمَا قَالَ: ﴿الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾.

وَمَنْ نَظَرَ إلى ذُرِّيَّتِهِ أَنَّهَا نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ تعالى عَلَيْهِ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَشْكُرَ اللهَ تعالى عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، حَتَّى لَا تَنْقَلِبَ الذُّرِّيَّةُ إلى نِقْمَةٍ؛ وَشُكْرُ اللهِ تعالى عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ تُوجِبُ عَلَى الوَالِدَيْنِ أَنْ يُرَبِّيَا الذُّرِّيَّةَ تَرْبِيَةً صَالِحَةً، وَأَنْ تَكُونَ أُمْنِيَتُهُمَا صَلَاحَ الذُّرِّيَّةِ.

لَنْ تَرَى أَسْعَدَ مِنَ الوَالِدَيْنِ وَهُمَا يَنْظُرَانِ إلى ذُرِّيَّتِهِمَا وَقَدْ هَدَاهُمُ اللهُ تعالى الطَّرِيقَ المُسْتَقِيمَ، وَرَزَقَهُمُ الاسْتِقَامَةَ عَلَى الدِّينِ وَالهَدْيِ المُحَمَّدِيِّ.

لَنْ تَرَى أَسْعَدَ مِنَ الوَالِدَيْنِ وَهُمَا يَنْظُرَانِ إلى ذُرِّيَّتِهِمَا وَهُمْ يُحِبُّونَ اللهَ تعالى وَيُحِبُّهُمْ، وَيُوَادُّونَ أَوْلِيَاءَ اللهِ تعالى وَأَحِبَّاءَهُ.

لَنْ تَرَى أَسْعَدَ مِنَ الوَالِدَيْنِ وَهُمَا يَنْظُرَانِ إلى ذُرِّيَّتِهِمَا وَهُمْ يُرَجِّحُونَ حُبَّ اللهِ تعالى وَحُبَّ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى حُبِّ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا، وَمِنْ زَخَارِفِهَا وَزِينَتِهَا.

لَنْ تَرَى أَسْعَدَ مِنَ الوَالِدَيْنِ وَهُمَا يَنْظُرَانِ إلى أَخْلَاقِ ذُرِّيَّتِهِمَا قَدْ هُذِّبَتْ، وَإلى سُلُوكِهِمْ قَدْ حَسُنَ، فَهُمْ يُحْسِنُونَ التَّعَامُلَ مَعَ اللهِ تعالى، وَمَعَ الخَلْقِ عَامَّةً، وَمَعَ الأَرْحَامِ خَاصَّةً.

الخَوْفُ عَلَى الذُّرِّيَّةِ مِنَ الضَّيَاعِ وَاجِبٌ عَلَيْنَا شَرْعَاً:

يَا عِبَادَ اللهِ: الذُّرِّيَّةُ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ أَعْظَمُ مِنْ نِعْمَةِ المَالِ، وَأَعْظَمُ مِنْ نِعْمَةِ الجَاهِ وَالسِّيَادَةِ وَالرِّيَادَةِ، وَأَعْظَمُ مِنْ نِعْمَةِ الصِّحَّةِ وَالعَافِيَةِ، فَيَا مَنْ يَتَأَلَّمُ عَلَى نِعْمَةِ المَالِ إِذَا فَقَدَهَا، وَيَتَأَلَّمُ عَلَى نِعْمَةِ الجَاهِ وَالسِّيَادَةِ وَالرِّيَادَةِ إِذَا فَقَدَهَا، وَيَتَأَلَّمُ عَلَى نِعْمَةِ الصِّحَّةِ وَالعَافِيَةِ إِذَا فَقَدَهَا، أَقُولُ لَكَ: هَذَا مِنْ حَقِّكَ، أَنْ تَتَأَلَّمَ عَلَى فَقْدِ هَذِهِ النِّعَمِ، وَلَكِنْ هَلْ تَتَأَلَّمُ عَلَى نِعْمَةِ الذُّرِّيَّةِ إِنْ فَقَدَتْ ذُرِّيَّتُكَ ـ لَا قَدَّرَ اللهُ تعالى ـ نِعْمَةَ الهِدَايَةِ وَالاسْتِقَامَةِ، وَمَحَبَّةَ اللهِ تعالى، وَمَحَبَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

هَلْ تَتَأَلَّمُ عَلَى نِعْمَةِ ذُرِّيَّتِكَ إِنْ رَأَيْتَهُمْ قَدْ غَرِقُوا في بِحَارِ الدُّنْيَا، فَبَاعُوا دِينَهُمْ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا؟

هَلْ تَتَأَلَّمُ عَلَى نِعْمَةِ ذُرِّيَّتِكَ إِنْ رَأَيْتَهُمْ قَدِ انْحَرَفُوا عَنْ جَادَّةِ الصَّوَابِ وَضَاعُوا، بَلْ وَغَرِقُوا في بِحَارِ الشَّهَوَاتِ مِنْ حُبِّ النِّسَاءِ وَحُبِّ القَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ؟

هَلْ تَتَأَلَّمُ عَلَى نِعْمَةِ ذُرِّيَّتِكَ إِنْ رَأَيْتَ الذُّكُورَ مِنْهُمْ قَدْ تَخَنَّثُوا، وَغَرِقُوا في أَوْدِيَةِ الضَّلَالِ مِنْ خِلَالِ مَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيِّ، وَإِذَا رَأَيْتَ الإِنَاثَ مِنْهُمْ كَذَلِكَ قَدْ غَرِقُوا في الضَّلَالِ وَالانْحِرَافِ مِنْ خِلَالِ مَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيِّ، حَتَّى رَأَيْتَهُنَّ كَاسِيَاتٍ عَارِيَاتٍ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: حَرَامٌ عَلَيْنَا أَنْ نَغْتَرَّ بِنِعْمَةِ الذُّرِّيَّةِ، وَنَظُنَّ أَنَّ مُجَرَّدَ وُجُودِهِمْ نِعْمَةٌ، مِنْ غَيْرِ النَّظَرِ في العَوَاقِبِ ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾؟

قَدْ تُصْبِحُ الذُّرِّيَّةُ عَدُوَّاً لَنَا إِذَا لَمْ نَخَفْ عَلَيْهِمْ مِنَ الضَّيَاعِ وَالانْحِرَافِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوَّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: الخَوْفُ عَلَى الذُّرِّيَّةِ مِنَ الضَّيَاعِ وَاجِبُ شَرْعِيٌّ عَلَيْنَا، فَلْنَجْتَهِدْ في الدُّعَاءِ لَهُمْ، وَخَاصَّةً في وَقْتِ السَّحَرِ، وَفِي أَوْقَاتِ الإِجَابَةِ، دَاعِينَ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامَاً﴾.

﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾.

﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحَاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنُكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ لِذُرِّيَّتِنَا، وَنَحْنُ نَسْتَحْضِرُ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ المُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ المَظْلُومِ» رواه أبوداود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَفِي رِوَايَةِ ابن ماجه: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُنَّ، لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ المَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ المُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ».

وَلَكِنْ قَبْلَ الدُّعَاءِ للذُّرِّيَّةِ قِفْ قَلِيلَاً، وَفَكِّرْ بِحَدِيثِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

روى الطَّبَرَانِيُّ في الأَوْسَطِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: تُلِيَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالَاً طَيِّبَاً﴾.

فَقَامَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ.

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا سَعْدُ، أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ الْعَبْدَ لَيَقْذِفُ اللُّقْمَةَ الْحَرَامَ فِي جَوْفِهِ مَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ عَمَلَ أَرْبَعِينَ يَوْمَاً، وَأَيُّمَا عَبْدٍ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنَ السُّحْتِ وَالرِّبَا فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ».

فَقَبْلَ الدُّعَاءِ للذُّرِّيَّةِ قِفْ قَلِيلَاً مَعَ نَفْسِكَ، وَاصْدُقِ اللهِ تعالى:

هَل مَطْعَمُكَ مِنْ حَلَالٍ؟

وَهَل مَشْرَبُكَ مِنْ حَلَالٍ؟

وَهَل مَلْبَسُكَ مِنْ حَلَالٍ؟

وَهَل مَسْكَنُكَ مِنْ حَلَالٍ؟

وَهَل مَرْكُوبُكَ مِنْ حَلَالٍ؟

وَهَل مَحَلُّكَ مِنْ حَلَالٍ؟

وَهَل رَأْسُ مَالِكَ مِنْ حَلَالٍ؟

إِنْ كَانَ ـ لَا قَدَّرَ اللهُ تعالى ـ مِنْ حَرَامٍ ـ وَأَنْتَ أَدْرَى بِنَفْسِكَ مِنْ غَيْرِكَ، لِأَنَّكَ وَاللهِ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَخْدَعَ نَفْسَكَ، الحَلَالُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ ـ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟

يَا رَبِّ ارْزُقْنَا رِزْقَاً حَلَالَاً وَاسِعَاً طَيِّبَاً مُبَارَكَاً مِنْ غَيْرِ فِتْنَةٍ، وَارْزُقْنَا ذُرِّيَّةً صَالِحَةً تَكُونُ قُرَّةَ عَيْنٍ لَنَا في الدُّنْيَا وَالبَرْزَخِ وَيَوْمِ القِيَامَةِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 7/ جمادى الثانية /1439هـ، الموافق: 23/ شباط / 2018م