588ـ خطبة الجمعة: الحسن عندهم ما استحسنت

 

588ـ خطبة الجمعة: الحسن عندهم ما استحسنت

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: يَجِبُ عَلَيْنَا نَحْنُ الآبَاءُ وَكَذَلِكَ الأُمَّهَاتُ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ أَمْرَ تَرْبِيَةِ الأَبْنَاءِ لَيْسَ بِالأَمْرِ اليَسِيرِ، وَخَاصَّةً في زَمَنٍ فُتِحَ العَالِمُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، مِنْ خِلَالِ وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيِّ.

يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَ بِأَنَّ أَوَّلَ وَسِيلَةٍ صَحِيحَةٍ لِتَرْبِيَةِ الأَبْنَاءِ هِيَ سُلُوكُنَا، لِأَنَّا قُدْوَةٌ للأَبْنَاءِ إِنْ شِئْنَا وَإِنْ أَبَيْنَا، فَإِذَا أَرَدْنَا صَلَاحَ أَبْنَائِنَا فَعَلَيْنَا بِصَلَاحِ أَنْفُسِنَا لِنَكُونَ قُدْوَةً صَالِحَةً لَهُمْ.

يَا عِبَادَ اللهِ: عِنْدَمَا أَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَسُودَ شَرْعُهُ وَهُدَاهُ جَعَلَ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةً وَقُدْوَةً صَالِحَةً للنَّاسِ جَمِيعَاً، فَقَالَ تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾. وَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدَاً وَمُبَشِّرَاً وَنَذِيرَاً * وَدَاعِيَاً إِلَى اللهِ﴾. يَعْنِي بِسُلُوكِكَ وَأَخْلَاقِكَ وَسِيرَتِكَ العَطِرَةِ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللهُ تعالى أَنْ يُخَاطِبَ الجَمِيعَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَاتَّبِعُونِي﴾. في سُلُوكِي وَأَخْلَاقِي وَسِيرَتِي.

فَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ دَاعِيَاً وَهَادِيَاً وَمُرَبِّيَاً، بِسُلُوكِهِ الـشَّخْصِيِّ، وَلَيْسَ بِالكَلَامِ فَقَطْ، مَا كَانَ يُوَجِّهُ النَّاسَ بِالآيَاتِ الكَرِيمَةِ، وَلَا بِأَحَادِيثِهِ الشَّرِيفَةِ فَقَطْ، بَلْ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ القَوْلِ وَالعَمَلِ؛ فَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قُرْآنَاً يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ.

الحَسَنُ عِنْدَهُمْ مَا اسْتَحْسَنْتَ:

يَا عِبَادَ اللهِ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَبٍ وَأُمٍّ أَنْ يَعْلَمَا أَنَّ الحَسَنَ عِنْدَ الأَبْنَاءِ مَا اسْتَحْسَنَاهُ، وَالقَبِيحَ عِنْدَهُمْ مَا اسْتَقْبَحَاهُ، فَالأَبْنَاءُ مُنْذُ نُعُومَةِ أَظْفَارِهِمْ يَلْتَقِطُونَ مِنَ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ بِوَعْيٍ وَبِغَيْرِ وَعْيٍ كُلَّ مَا يَرَوْنَهُ أَو يَسْمَعُونَهُ.

فَالذي يَرَى أُمَّهُ وَأَبَاهُ يَكْذِبَانِ كَيْفَ يَتَعَلَّمُ مِنْهُمَا الصِّدْقَ؟

وَالذي يَرَى أُمَّهُ وَأَبَاهُ يَغُشَّانِ كَيْفَ يَتَعَلَّمُ مِنْهُمَا الأَمَانَةَ؟

وَالذي يَرَى أُمَّهُ وَأَبَاهُ يُخْلِفَانِ في الوَعْدِ كَيْفَ يَتَعَلَّمُ مِنْهُمَا الوَفَاءَ بِالوَعْدِ؟

وَالتي تَرَى أُمَّهَا قَدْ لَبِسَتِ الثِّيَابَ الضَّيِّقَةَ وَالقَصِيرَةَ، وَكَشَفَتْ عَوْرَتَهَا، كَيْفَ تَتَعَلَّمُ مِنْهَا لِبَاسَ التَّقْوَى؟

وَالذي يَرَى أُمَّهُ وَأَبَاهُ قَاسِيَيْنِ في تَعَامُلِهِمَا كَيْفَ يَتَعَلَّمُ مِنْهُمَا خُلُقَ الرَّحْمَةِ؟

مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقَاً:

يَا عِبَادَ اللهِ: كَمْ نَحْنُ اليَوْمَ بِحَاجَةٍ إلى التَّأَسِّي بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ كَمْ يَحْتَاجُ الآبَاءُ وَالأُمَّهَاتُ إلى التَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ المُرَبِّي العَظِيمِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: فَاقِدُ الشَّيْءِ لَا يُعْطِيهِ، كَيْفَ يُرَبِّي الآبَاءُ وَالأُمَّهَاتُ أَبْنَاءَهُمْ عَلَى الصِّدْقِ، وَهُمْ قَدْ حُرِمُوهُ؟

لِنَنْظُرْ إلى المُرَبِّي للبَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ، لَا للأَبْنَاءِ فَقَطْ، عِنْدَمَا خَاطَبَ الأُمَّةَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ» رواه الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. كَانَ يُرَبِّي الأُمَّةَ بِأَمْرِهِ لَهُمْ بِالْتِزَامِ الصِّدْقِ الذي هُوَ سِرُّ فَلَاحِ وَنَجَاحِ العَبْدِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

وَلَكِنْ كَيْفَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُرَبِّيَ غَيْرَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

روى الإمام البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾. صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي: «يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ» ـ لِبُطُونِ قُرَيْشٍ ـ حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولَاً لِيَنْظُرَ مَا هُوَ.

فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ، فَقَالَ: «أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلَاً بِالوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟».

قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقَاً.

أَيُّهَا الأَبُ، وَأَيَّتُهَا الأُمُّ، كُونَا صَادِقَيْنِ قَبْل أَنْ تَأْمُرَا وَلَدَكُمَا بِالصِّدْقِ، اصْدُقَا القَوْلَ، وَاصْدُقَا الفِعْلَ، وَاصْدُقَا العَهْدَ، وَاصْدُقَا الوَعْدَ، وَاصْدُقَا التَّقْوَى، اصْدُقَا في كُلِّ أَمْرٍ، وَاحْذَرَا مِنَ الكَذِبِ.

«نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ»:

يَا عِبَادَ اللهِ: كَيْفَ يُرَبِّي الآبَاءُ وَالأُمَّهَاتُ الأَبْنَاءَ عَلَى الوَفَاءِ بِالعُهُودِ وَالوُعُودِ، وَهُمْ أَوَّلُ النَّاقِضِينَ لِلعُهُودِ وَالوُعُودِ؟

أَيُّهَا المُرَبُّونَ مِنَ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ، وَيَا سَائِرَ المُرَبِّينَ، لِنَتَعَلَّمْ مِنَ المُرَبِّي العَظِيمِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَيْفَ يَكُونُ الوَفَاءُ بِالعَهْدِ وَالوَعْدِ.

روى الإمام مسلم عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرَاً إِلَّا أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلٌ، فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، قَالُوا: إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدَاً؟

فَقُلْنَا: مَا نُرِيدُهُ، مَا نُرِيدُ إِلَّا المَدِينَةَ؛ فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى المَدِينَةِ، وَلَا نُقَاتِلُ مَعَهُ.

فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: «انْصَرِفَا (يَعْنِي: لَا تَشْهَدَا مَعَنَا المَعْرَكَةَ) نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ اللهَ عَلَيْهِمْ».

هَذَا هُوَ الأَبُ المُرَبِّي، هَذَا هُوَ المُرْشِدُ المُرَبِّي، هَذَا هُوَ العَالِمُ المُرَبِّي، هَذَا هُوَ المَسْؤُولُ المُرَبِّي، هَذَا هُوَ القَائِدُ المُرَبِّي.

أَيُّهَا الآبَاءُ وَالأُمَّهَاتُ، أَنْتُمُ القُدْوَةُ وَالأُسْوَةُ للأَبْنَاءِ، فَمَا مِنْ أَبٍ وَلَا أُمٍّ إِلَّا وَيُرِيدَانِ لِأَبْنَائِهِمُ الكَمَالَ في الأَخْلَاقِ وَالقِيَمِ، فَإِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ في ذَلِكَ، فَانْظُرُوا إلى سِيرَةِ نَبِيِّكُمْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لَقَدْ كَانَ مِثَالَاً رَائِعَاً لَا مَثِيلَ لَهُ في سُلُوكِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَأَفْعَالِهِ قَبْلَ أَقْوَالِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: خَيْرُ مَا نَتْرُكُهُ بَعْدَ مَوْتِنَا الوَلَدُ الصَّالِحُ، فَهُوَ عِزُّنَا في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهُوَ ذُخْرُنَا بَعْدَ مَوْتِنَا، وَهُوَ قُرَّةُ أَعْيُنِنَا، هُوَ الذي تَحْتَرِقُ القُلُوبُ لِأَجْلِ رُؤْيَتِهِ قُرَّةَ عَيْنٍ ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامَاً﴾.

وَهُوَ الذي يَتَمَنَّى وَالِداهُ أَنْ يَجْمَعَ اللهُ تعالى بَيْنَهُمَا في الآخِرَةِ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾.

فَيَا مَنْ أَرَادَ هَذَا الوَلَدَ، كُنْ قُدْوَةً صَالِحَةً لَهُ مُنْذُ نُعُومَةِ أَظْفَارِهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَعِي شَيْئَاً فَأَنْتَ مُخْطِئٌ، فَهُوَ يَرَاكَ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ مِنْكَ، فَعَيْنُهُ مَعْقُودَةٌ بِعَيْنِكَ، فَالحَسَنُ عِنْدَهُ مَا تَسْتَحْسِنُهُ، وَالقَبِيحُ هُوَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ.

وَرَحِمَ اللهُ تعالى ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عِنْدَمَا قَالَ: إنَّ النَّاسَ أَحْسَنُوا الْقَوْلَ كُلُّهُمْ، فَمَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ فِعْلَهُ فَذَلِكَ الَّذِي أَصَابَ حَظَّهُ، وَمَنْ خَالَفَ قَوْلُهُ فِعْلَهُ فَإِنَّمَا يُوَبِّخُ نَفْسَهُ. يَا رَبِّ اجْعَلْنَا قُدْوَةً صَالِحَةً. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 14/ جمادى الثانية /1439هـ، الموافق: 2/ آذار / 2018م