5ـ بر الوالدين :بر الوالدين صفات كُمَّلِ الرجال

 

بر الوالدين

5ـ بر الوالدين صفات كُمَّلِ الرجال

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: بِرُّ الوَالِدَيْنِ مِنْ آكَدِ الحُقُوقِ وَأَعْظَمِهَا وَأَوْلَاهَا بِالعِنَايَةِ وَالرِّعَايَةِ التي تَجِبُ عَلَى الأَبْنَاءِ، وَلِهَذَا كَانَ الأَنْبِيَاءُ وَالمُرْسَلُونَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُمْ أَوْلَى مَنْ يَقُومُ بِهَذَا الوَاجِبِ، لِأَنَّهُمْ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قُدْوَةٌ للأُمَمِ الذينَ يَعِيشُونَ فِيهِمْ.

فَيَا أَيُّهَا الأَبْنَاءُ وَالبَنَاتُ، إِذَا كُنْتُمْ حَرِيصِينَ كُلَّ الحِرْصِ عَلَى دُخُولِ الجَنَّةِ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، فَاسْلُكُوا سَبِيلَهُمْ، وَتَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا بَرَرَةً بِآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ بِشَهَادَةِ اللهِ تعالى.

سَيِّدُنَا يَحْيَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ بَارَّاً بِوَالِدَيْهِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذَا سَيِّدُنَا يَحْيَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُثْنِي عَلَيْهِ رَبُّنَا في كِتَابِهِ العَظِيمِ بِقَوْلِهِ: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيَّاً * وَحَنَانَاً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيَّاً * وَبَرَّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارَاً عَصِيَّاً﴾. رَبَّاهُ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الجِدِّ وَالرُّجُولَةِ، لَا عَلَى التَّرَفِ، وَلَا عَلَى الشَّهَوَاتِ، وَلَا عَلَى مُتَابَعَةِ النَّفْسِ، وَلَا عَلَى تَحْقِيقِ الرَّغَبَاتِ ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيَّاً﴾.

كَمْ شَبَابُنَا اليَوْمَ بِحَاجَةٍ إلى الجِدِّ في الالْتِزَامِ بِالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ؟ لِأَنَّهُ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِالأَحْكَامِ بِقُوَّةٍ وَجِدٍّ، سَوْفَ يَكُونُ عَاقَّاً لِوَالِدَيْهِ لَا مَحَالَةَ، وَخَاسِرَاً في دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ.

سَيِّدُنَا يَحْيَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَخَذَ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ، وَتَعَوَّدَ الجِدَّ وَالرُّجُولَةَ، وَمِنْ تَمَامِ جِدِّهِ وَرُجُولَتِهِ كَانَ بَارَّاً بِوَالِدَيْهِ، فَكَانَتْ المُكَافَأَةُ مِنَ اللهِ تعالى أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْه في مَوَاطِنَ ثَلَاثَةٍ هِيَ مِنْ أَشَدِّ مَا تَكُونُ عَلَى الإِنْسَانِ، في يَوْمِ وِلَادَتِهِ، وَيَوْمِ مَوْتِهِ، وَيَوْمِ بَعْثِهِ، لِيَلْقَى الحَيَّ الذي لَا يَمُوتُ، قَالَ تعالى: ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيَّاً﴾.

فَيَا أَيُّهَا الأَبْنَاءُ وَالبَنَاتُ، مَنْ أَرَادَ سَلَامَةَ حَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ وَيَوْمِ بَعْثِهِ، لِيَكُنْ بَارَّاً بِوَالِدَيْهِ، لِأَنَّ صِفَةَ بِرِّ الوَالِدَيْنِ مِنْ صِفَاتِ كُمَّلِ الرِّجَالِ.

سَيِّدُنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَرٌّ بِوَالِدَتِهِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذَا سَيِّدُنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَأْمُرُهُ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ بِبِرِّ وَالِدَتِهِ وَهُوَ في المَهْدِ! فَهَلْ تَنَبَّهَ إلى هَذَا أَبْنَاؤُنَا؟

قَالَ تعالى مُخْبِرَاً عَنْ سَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيَّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكَاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيَّاً * وَبَرَّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارَاً شَقِيَّاً﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَمَّا كَانَ بِرُّ الوَالِدَيْنِ مِنَ القُرُبَاتِ العَظِيمَةِ، تَسَابَقَ إِلَيْهَا الأَتْقِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ وَالأَنْبِيَاءُ وَالمُرْسَلُونَ وَأَتْبَاعُهُمْ، لِأَنَّ اللهَ تعالى أَوْصَى بِبِرِّهِمَا وَلَو كَانَ الوَلَدُ طِفْلَاً صَغِيرَاً ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيَّاً * وَبَرَّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارَاً شَقِيَّاً﴾. وَعِنْدَمَا تَحَقَّقَ سَيِّدُنَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِتِلْكَ الوَصِيَّةِ، كَانَ أَهْلَاً لِأَنْ يَقُولَ بِفَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيَّاً﴾.

سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَمَّا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ فَقَدَ أَبَاهُ وَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَنِينٌ في بَطْنِ أُمِّهِ، وَفَقَدَ أُمَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَا زَالَ صَغِيرَ السِّنِّ، وَلَكِنْ كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَوْصَلَ للرَّحِمِ مِنْ سَائِرِ المَخْلُوقَاتِ، وَأَحْنَى عَلَيْهِمْ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، كَمَا شَهِدَتْ بِذَلِكَ أُمُّنَا السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام البخاري، أَنَّ السَّيِّدَةَ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: كَلَّا وَاللهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدَاً (أَيْ: لَا يُذِلُّكَ وَلَا يُضَيِّعُكَ) إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ (تُكْرِمُ القَرَابَةَ وَتُوَاسِيهِمْ) وَتَحْمِلُ الكَلَّ (تَكْفَلُ اليَتِيمَ وَتَحْمِلُ ثِقَلَ العَجَزَةِ) وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ (تَتَبَرَّعُ بِالمَالِ لِمَنْ عُدِمَهُ وَتُعْطِي النَّاسَ مَا لَا يَجِدُونَهُ عِنْدَ غَيْرِكَ) وَتَقْرِي الضَّيْفَ (تُهَيِّئُ لَهُ القِرَى وَهُوَ مَا يُقَدَّمُ للضَّيْفِ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ) وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ (النَّوَائِبُ جَمْعُ نَائِبَةٍ وَهِيَ مَا يَنْزِلُ بِالإِنْسَانِ مِنَ المُهِمَّاتِ).

وَهَذَامَا دَعَا إِلَيْهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الـشَّرِيفِ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْنِينِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ.

قَالَ: «تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئَاً، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ ذَا رَحِمِكَ».

فَلَمَّا أَدْبَرَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ : «إِنْ تَمَسَّكَ بِمَا أُمِرَ بِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ».

وَأُولَى الأَرْحَامِ بِالوَصْلِ هُمَا الأَبَوَانِ.

وروى الإمام مسلم في قِصَّةِ إِسْلَامِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ السُّلَمِيِّ، يَقُولُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِيَاً، جُرَءَاءُ عَلَيْهِ قَوْمُهُ (وَهِيَ الإِقْدَامُ وَالتَّسَلُّطُ) فَتَلَطَّفْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنْتَ؟

قَالَ: «أَنَا نَبِيٌّ».

فَقُلْتُ: وَمَا نَبِيٌّ؟

قَالَ: «أَرْسَلَنِي اللهُ».

فَقُلْتُ: وَبِأَيِّ شَيْءٍ أَرْسَلَكَ؟

قَالَ: «أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَكَسْرِ الْأَوْثَانِ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللهُ لَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ».

وَأَيُّ الأَرْحَامِ أَحَقُّ بِالصِّلَةِ مِنَ الأَبَوَيْنِ؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: بِرُّ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ مِنْ صِفَاتِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، مِنْ صِفَاتِ الكُمَّلِ مِنَ الرَّجَالِ، فَالرَّجُلُ كُلَّمَا عَظُمَتْ شَخْصِيَّتُهُ عَظُمَ بِرُّهُ لِأَبَوَيْهِ، وَكُلَّمَا صَغُرَتْ شَخْصِيَّتُهُ قَلَّ بِرُّهُ لِوَالِدَيْهِ، وَمَنْ قَلَّ بِرُّهُ لِوَالِدَيْهِ قَلَّ إِيمَانُهُ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى، لِأَنَّهُ اجْتَرَأَ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللهِ تعالى، وَاجْتَرَأَ عَلَى تَعَدِّي حُدُودِ اللهِ تعالى، وَاللهُ تعالى يَقُولُ: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾. وَأَكْثَرُ الشَّبَابِ وَالشَّابَّاتِ اليَوْمَ وَقَعُوا في ظُلْمِ أَنْفُسِهِمْ، فَتَعِبُوا وَأَتْعَبُوا، وَشَقُوا وَأَشْقَوْا.

أَيُّهَا الأَبْنَاءُ وَالبَنَاتُ، لَيْسَ هُنَاكَ حَقٌّ بَعْدَ حُقُوقِ اللهِ تعالى وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَوْجَبَ عَلَيْكُمْ وَلَا آكَدَ مِنْ حُقُوقِ آبَائِكُمْ وَأُمَّهَاتِكُمْ عَلَيْكُمْ، وَلَوْلَا ذَاكَ لَمَا مَدَحَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا يَحْيَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِبِرِّهِ لِوَالِدَيْهِ، وَلَمْ يَأْمُرْ سَيِّدَنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ في المَهْدِ بِبِرِّ أُمِّهِ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا بَرَرَةً بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا أَحْيَاءً وَمَيْتِينَ. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 16/ جمادى الثانية /1439هـ، الموافق: 4/ آذار / 2018م