13ـ فصاحة لسانه وبلاغة كلامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

 

من كتاب سيدنا محمد رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

13ـ فصاحة لسانه وبلاغة كلامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَفْصَحَ خَلْقِ اللهِ تعالى لِسَانَاً، وَأَوْضَحَهُمْ بَيَانَاً، أُوتِيَ جَوَامِعَ الكَلِمِ، وَبَدَائِعَ الحِكَمِ، وَقَوَارِعَ الزَّجْرِ، وَقَوَاطِعَ الأَمْرِ، وَالقَضَايَا المُحْكَمَةَ، وَالوَصَايَا المُبْرَمَةَ، وَالمَوَاعِظَ البَالِغَةَ، وَالحُجَجَ الدَّامِغَةَ، وَالبَرَاهِينَ القَاطِعَةَ، وَالأَدِلَّةَ السَّاطِعَةَ.

جَاءَ في المُسْنَدِ وَغَيْرِهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَاً كَالمُوَدِّعِ، فَقَالَ: «أَنَا مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ ـ قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ـ وَلَا نَبِيَّ بَعْدِي، أُوتِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ، وَخَوَاتِمَهُ، وَجَوَامِعَهُ . . . » الحَدِيثَ.

فَكَيْفَ لَا يَكُونُ أَفْصَحَ خَلْقِ اللهِ تعالى، وَقَدْ آتَاهُ اللهُ تعالى الكَلِمَ الجَامِعَ للمَعَانِي الكَثِيرَةِ، في الأَلْفَاظِ اليَسِيرَةِ.

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِيمَهُ، وَاخْتُصِرَ لِي اخْتِصَارَاً، وَلَقَدْ أَتَيْتُكُمْ بِهَا (أَيْ: الـشَّرِيعَةَ) بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، فَلَا تَتَهَوَّكُوا، وَلَا يَضُرَّنَّكُمُ المُتَهَوِّكُونَ . . » الحَدِيثَ. وَقَدْ أَوْرَدَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ الحَدِيثَ بِطُولِهِ مَعْزُوَّاً لِأَبِي يَعْلَى، ثُمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَلَهُ شَوَاهِد، وَالتَّهَوُّكُ: التَّحَيُّرُ، أَو الدُّخُولُ في كُلِّ أَمْرٍ.

وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ في تَارِيخِ أَصْبَهَانَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، مَالَكَ أَفْصَحَنَا وَلَمْ تَخْرُجْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا؟

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كَانَتْ لُغَةُ إِسْمَاعِيلَ قَدْ دَرَسَتْ، فَجَاءَنِي بِهَا جِبْرِيلُ فَحَفِظْتُهَا». قَالَ الحَافِظُ الزَّرْقَانِيُّ: رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ في تَارِيخِ أَصْبَهَانَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَكَذَا ابْنُ عَسَاكِرَ وَأَبُو أَحْمَدَ الغِطْرِيفُ بِلَفْظِ: «إِنَّ لُغَةَ إِسْمَاعِيلَ كَانَتْ دَرَسَتْ، فَأَتَانِي بِهَا جِبْرِيلُ فَحَفِظْتُهَا». اهـ. مِنْ شَرْحِ المَوَاهِبِ، وَفِيهِ: أَخْرَجَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ مَرْفُوعَاً: «أَوَّلُ مَنْ فَتَقَ اللهُ لِسَانَهُ بِالعَرَبِيَّةِ البَيِّنَةِ إِسْمَاعِيلُ».

قَالَ الحَافِظُ الزَّرْقَانِيُّ: بَلْ زَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَ يُخَاطِبُ كُلَّ ذِي لُغَةٍ بِلُغَتِهِ، اتِّسَاعَاً في الفَصَاحَةِ ـ أي: وَاتِّسَاعَاً في اطِّلَاعِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَمِيعِ لُغَاتِ العَرَبِ، وَلَهَجَاتِهِمُ الفَصِيحَةِ، كَمَا وَرَدَ في المُسْنَدِ وَغَيْرِهِ: عَنْ كَعْبِ بْنِ عَاصِمٍ الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَيْسَ مِنَ امْبِرِّ امْصِيَامُ فِي امْسَفَرِ» بِإِبْدَالِ اللَّامِ مِيمَاً في الثَّلَاثَةِ، عَلَى لُغَةِ بَعْضِ أَهْلِ اليَمَنِ، حَيْثُ خَاطَبَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِلُغَتِهِمْ، وَأَصْلُ هَذَا الحَدِيثِ في الصَّحِيحَيْنِ.

وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَطِيَّةَ بْنِ عُرْوَةَ السَّعْدِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيمَا قَالَ لَهُ: «فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا هِيَ المُنْطِيَةُ، وَإِنَّ الْيَدَ السُّفْلَى هِيَ المُنْطَاةُ».

قَالَ: فَكَلَّمَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِلُغَتِنَا، أَيْ: بِلُغَةِ بَنِي سَعْدٍ، وَهِيَ إِبْدَالُ العَيْنِ نُونَاً.

وَقَدْ أَوْرَدَ هَذَا الحَدِيثَ بِتَمَامِهِ في شَرْحِ المَوَاهِبِ، وَعَزَاهُ إلى عَبْدِ البَرِّ وَالحَاكِمِ؛ قَالَ الحَافِظُ القَسْطَلَانِيُّ: وَقَدْ كَانَ هَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَنْ يُكَلِّمَ كُلَّ ذِي لُغَةٍ بِلُغَتِهِ، عَلَى اخْتِلَافِ لُغَةِ العَرَبِ، وَتَرَاكِيبِ أَلْفَاظِهَا وَأَسَالِيبِ كَلِمِهَا. اهـ.

آدَابُهُ في الكَلَامِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ مُفَصَّلٍ مُبَيَّنٍ، بِحَيْثُ لَوْ أَرَادَ مُسْتَمِعُهُ أَنْ يَعُدَّهُ لَأَمْكَنَهُ ذَلِكَ، لِوُضُوحِهِ وَبَيَانِهِ.

قَالَتِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَـسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ، كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثَاً لَوْ عَدَّهُ العَادُّ لَأَحْصَاهُ. رواه الشيخان، وَزَادَ الإِسْمَاعِيلِيُّ في رِوَايَتِهِ: إِنَّمَا كَانَ حَدِيثُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَهْمَاً تَفْهَمُهُ القُلُوبُ.

وَرَوَى أبو داود عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ كَلَامُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَلَامَاً فَصْلَاً يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ.

وَرَوَى عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ فِي كَلَامِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَرْتِيلٌ، أَوْ تَرْسِيلٌ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثَاً، حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ، وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثَاً.

 (وَمِنْ حِكْمَةُ ذَلِكَ: أَنْ تَكُونَ الأُولَى للإِسْمَاعِ، وَالثَّانِيَةُ للوَعْيِ، وَالثَّالِثَةُ للفِكْرَةِ، أَو: الأُولَى للإِسْمَاعِ، وَالثَّانِيَةُ للتَّنْبِيهِ، وَالثَّالِثَةُ للأَمْرِ، عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَةَ فِيهَا غَايَةُ الأَعْذَارِ وَالبَيَانِ، فَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ بِهَا لَا يَفْهَمُ بْمِا زِيدَ عَلَيْهَا).

وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ فَصْلٍ لَا هَزْرَ وَلَا نَزْرَ، وَيَكْرَهُ الثَّرْثَرَةَ في الكَلَامِ، وَالتَّشَدُّقَ بِهِ. اهـ.

وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُ التَّنَطُّعَ في الكَلَامِ وَالتَّكَلُّفُّ في فَصَاحَتِهِ، كَمَا وَرَدَ في سُنَنِ أَبِي داود والترمذي بِالسَّنَدِ الجَيِّدِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ يَبْغَضُ البَلِيغَ مِنَ الرِّجَالِ، الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ البَقَرَةُ بِلِسَانِهَا» قَالَ في النِّهَايَةِ: هُوَ الذي يَتَشَدَّقُ في الكَلَامِ، وَيُفَخِّمُ بِهِ لِسَانَهُ، وَيَلُفُّهُ، كَمَا تَلُفُّ البَقَرَةُ الكَلَأَ بِلِسَانِهَا لَفَّاً. اهـ.

وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ لَا يُخُلُّ وَلَا يُمَلُّ:

روى مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَتْ صَلَاتُهُ قَصْدَاً، وَخُطْبَتُهُ قَصْدَاً (أَيْ: وَسَطَاً).

وروى أبو داود وَالحَاكِم عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَا يُطِيلُ المَوْعِظَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِنَّمَا هُنَّ كَلِمَاتٌ يَسِيرَاتٌ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وروى الإمام أحمد وأبو داود مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الجُمُعَةَ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُتَوَكِّئَاً عَلَى قَوْسٍ ـ أَوْ قَالَ عَلَى عَصَاً ـ فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ كَلِمَاتٍ خَفِيفَاتٍ، طَيِّبَاتٍ، مُبَارَكَاتٍ.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 17/جمادى الثانية /1439هـ، الموافق: 5/ آذار / 2018م