14ـ حاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وهو يخطب

 

من كتاب سيدنا محمد رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

14ـ حاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وهو يخطب

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَغَيَّرُ حَالُهُ عِنْدَ المَوْعِظَةِ، اهْتِمَامَاً وَإِعْظَامَاً، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ في وَجْهِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: «صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ».

وروى الطَّبَرَانِيُّ وَالبَزَّارُ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ الْوَحْيُ أَوْ وَعَظَ قُلْتَ: نَذِيرُ قَوْمٍ أَتَاهُمُ الْعَذَابُ؛ فَإِذَا ذَهَبَ عَنْهُ ذَلِكَ رَأَيْتَ أَطْلَقَ النَّاسِ وَجْهَاً، وَأَكْثَرَهُمْ ضَحِكَاً، وَأَحْسَنَهُمْ بِشْرَاً». انْظُرْ جَامِع العُلُومِ وَالحِكَمِ.

وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُنَا فَيُذَكِّرُنَا بِأَيَّامِ اللهِ، حَتَّى نَعْرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَكَأَنَّهُ نَذِيرُ قَوْمٍ يُصَبِّحُهُمِ الْأَمْرُ غُدْوَةً، وَكَانَ إِذَا كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِجِبْرِيلَ لَمْ يَتَبَسَّمْ ضَاحِكَاً حَتَّى يَرْتَفِعَ عَنْهُ.

قُوَّةُ وَعْظِهِ وَتَذْكِيرِهِ وَتَأْثِيرِهِ في الصَّحَابَةِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا وَعَظَ أَثَّرَ في قُلُوبِ السَّامِعِينَ، وَطَيَّبَ نُفُوسَهُمْ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَتَذْرِفُ دُمُوعُهُمْ، وَتَرِقُّ وَتَخْشَعُ قُلُوبُهُمْ، وَيَرْتَقِي الحَالُ بِهِمْ إلى المُشَاهَدَاتِ وَالمُعَايَنَاتِ، فَعَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟

قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ.

قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ! مَا تَقُولُ؟

قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، فَنَسِينَا كَثِيرَاً.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا.

فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، يَا رَسُولَ اللهِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا ذَاكَ؟».

قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرَاً.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَـفْسِي بِيَدِهِ، إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ المَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

وروى الترمذي عَنْ العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَاً بَعْدَ صَلَاةِ الغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ.

وفي رِوَايَةٍ لِغَيْرِ التِّرْمِذِيِّ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً مَضَّتْ ـ احْتَرَقَتْ ـ مِنْهَا الجُلُودُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ.

فَقُلْنَا: كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟

فَقَالَ: «أَنِ اتَّقُوا اللهَ، وَأَنْ تَتَّبِعُوا سُنَّتِي وَسُنَّةَ الخُلَفَاءِ الهَادِيَةِ المَهْدِيَّةِ مِنْ بَعْدِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ». وَانْظُرِ الجُزْءَ الثَّالِثَ مِنَ المَطَالِبِ العَالِيَةِ.

وَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: لَو أَنِّي أَكُونُ عَلَى أَحْوَالٍ ثَلَاثَةٍ مِنْ أَحْوَالي، لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ: حِينَ أَقْرَأُ القُرْآنَ وَحِينَ أَسْمَعُهُ، وَإِذَا سَمِعْتُ خُطْبَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا شَهِدْتُ جِنَازَةً.

بَلْ كَانَتْ خُطَبُهُ وَمَوَاعِظُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تُؤَثِّرُ في الجَمَادَاتِ، كَمَا وَرَدَ في المُسْنَدِ  ـ وَأَصْلُهُ في مُسْلِمٍ ـ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعَاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾. وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ هَكَذَا بِيَدِهِ، وَيُحَرِّكُهَا، يُقْبِلُ بِهَا وَيُدْبِرُ: «يُمَجِّدُ الرَّبُّ نَفْسَهُ: أَنَا الْجَبَّارُ، أَنَا المُتَكَبِّرُ، أَنَا المَلِكُ، أَنَا العَزِيزُ، أَنَا الكَرِيمُ» فَرَجَفَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرُ حَتَّى قُلْنَا: لَيَخِرَّنَّ بِهِ! (أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟) كَمَا في رِوَايَةِ مُسْلِمٍ.

فَالمِنْبَرُ يَهْتَزُّ تَأَثُّرَاً بِوَعْظِهِ وَتَذْكِيرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَوَيْلٌ للقُلُوبِ التي لَا تَهْتَزُّ بِمَوَاعِظِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

تَنْبِيهُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الخُطَبَاءِ وَالوَاعِظِينَ إلى مَسْؤُولِيَّتِهِمْ عِنْدَ رَبِّ العَالَمِينَ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَمَّا كَانَتْ مَوَاقِفُ الخَطَابَةِ وَالوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ مَوَاقِفَ مُهِمَّةً خَطِيرَةً، لِذَلِكَ كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُنَبِّهُ الخُطَبَاءَ إلى إِخْلَاصِ النِّيَّةِ في خُطَبِهِمْ، وَأَنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ مَسْؤُولِيَّةً عِنْدَ رَبِّ العَالَمِين.

روى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا والبيهقي مُرْسَلَاً بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ كَمَا في تَرْغِيبِ المُنْذِرِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَخْطُبُ خُطْبَةً إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ سَائِلُهُ عَنْهَا، مَا أَرَادَ بِهَا؟

قَالَ: فَكَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الحَدِيثِ بَكَى ثُمَّ يَقُولُ: تَحْسَبُونَ أَنَّ عَيْنَيَّ تَقَرُّ بِكَلَامِي عَلَيْكُمْ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ سَائِلِي عَنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ: مَا أَرَدْتَ بِهِ؟ فَأَقُولُ: أَنْتَ الشَّهِيدُ عَلَى قَلْبِي، لَو لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ أَحَبُّ إِلَيْكَ، لَمْ أَقْرَأْ بِهِ عَلَى اثْنَيْنِ أَبَدَاً.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمَا وَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَذَّرَ مِنْ تَصَنُّعِ الكَلَامِ لِيَسْبِي بِهِ قُلُوبَ الرِّجَالِ:

فَرَوَى أَبُو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَعَلَّمَ صَرْفَ الْكَلَامِ لِيَسْبِيَ بِهِ قُلُوبَ الرِّجَالِ، أَوِ النَّاسِ، لَمْ يَقْبَلِ اللهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفَاً وَلَا عَدْلَاً». قَالَ في النِّهَايَةِ: قَدْ تَكَرَّرَتْ هَاتَانِ اللَّفْظَتَانِ في الحَدِيثِ: فَالـصَّرْفُ: التَّوْبَةُ، وَقِيلَ النَّافِلَةُ، وَالعَدْلُ: الفِدْيَةُ، وَقِيلَ: الفَرِيضَةُ. اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 24/جمادى الثانية /1439هـ، الموافق: 12/ آذار / 2018م