6ـبر الوالدين:لا يسقط حق البر بالوالدين أبداً

 

بر الوالدين

6ـ لا يسقط حق البر بالوالدين أبداً

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِمَّا يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ مَكَانَةِ الوَالِدَيْنِ، وَرِفْعَةِ قَدْرِهِمَا، أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وتعالى وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَد أَمَرَا بِالإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ أَو مُـشْرِكَيْنِ، فَضلَاً إِنْ كَانَا فَاسِقَيْنِ فَاجِرَيْنِ، كَيْفَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَاللهُ تعالى يَقُولُ: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ﴾.

فَإِذَا كَانَ اللهُ تعالى لَا يَنْهَانَا عَنِ الإِحْسَانِ إلى الكُفَّارِ الذينَ لَمْ يُقَاتِلُونَا في الدِّينِ، وَلَا يَنْهَانَا عَنْ صِلَتِهِمْ وَالإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَالعَدْلِ مَعَهُمْ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَا وَالِدَيْنِ، فَمِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَوْلَى.

روى الشيخان عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُـشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّي؟

قَالَ: «نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ».

لَا يَسْقُطُ حَقُّ البِرِّ بِالوَالِدَيْنِ أَبَدَاً:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كُونُوا عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ حَقَ بِرِّ الوَالِدَيْنِ عَلَيْنَا لَا يَسْقُطُ أَبَدَاً، روى ابْنُ حِبَّانَ وَالبَزَّارُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ وَهُوَ فِي ظِلِّ أَجَمَةٍ، فقَالَ: قَدْ غَبَّرَ عَلَيْنَا ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ.

فقَالَ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ، وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ، لَئِنْ شِئْتَ لَآتِيَنَّكَ بِرَأْسِهِ.

فقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:  «لَا، وَلَكِنْ بِرَّ أَبَاكَ، وَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يُعَلِّمُنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الأَخْلَاقَ الحَسَنَةَ الفَاضِلَةَ، وَعَلَى رَأْسِهَا بِرُّ الوَالِدَيْنِ، سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْتَقِمْ لِنَفْسِهِ، بَلْ أَمَرَهُ بِالإِحْسَانِ إلى وَالِدِهِ رَغْمَ شِدَّةِ إِسَاءَتِهِ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

هَلْ وَقَفَ العَاقُّ لِوَالِدَيْهِ أَمَامَ هَذَا الحَدِيثِ، وَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ؟

بِرُّ الوَالِدَيْنِ أَفْضَلُ مِنَ الجِهَادِ في سَبِيلِ اللهِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ عِظَمِ مَكَانَةِ الوَالِدَيْنِ عِنْدَ اللهِ تعالى، وَرِفْعَةِ قَدْرِهِمَا، وَعِظَمِ حُقُوقِهِمَا عَلَى الوَلَدِ، أَنْ جَعَلَ اللهُ تعالى بِرَّهُمَا أَفْضَلَ مِنَ الجِهَادِ في سَبِيلِ اللهِ تعالى، مَعَ مَا للجِهَادِ مِنْ مَكَانَةٍ عَالِيَةٍ في الإِسْلَامِ.

روى الشيخان عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟

قَالَ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا».

قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟

قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الوَالِدَيْنِ».

قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟

قَالَ: «الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ».

بَلِ الأَكْثَرُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ للوَلَدِ أَنْ يَخْرُجَ للجِهَادِ في سَبِيلِ اللهِ تعالى، وَلَو مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْذَانِهَما.

روى الشيخان عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْجِهَادِ.

فَقَالَ: «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟».

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ (ابْذُلْ جَهْدَكَ في إِرْضَائِهِمَا وَبِرَّهُمَا فَيُكْتَبُ لَكَ أَجْرُ الجِهَادِ في سَبِيلِ اللهِ تعالى)».

وروى أبو داود والإمام أحمد والحاكم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلَاً هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَمَنِ فَقَالَ: «هَلْ لَكَ أَحَدٌ بِالْيَمَنِ؟».

قَالَ: أَبَوَايَ.

قَالَ: «أَذِنَا لَكَ؟».

قَالَ: «لَا».

قَالَ: «ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَاسْتَأْذِنْهُمَا، فَإِنْ أَذِنَا لَكَ فَجَاهِدْ، وَإِلَّا فَبِرَّهُمَا».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: بِرُّ الوَالِدَيْنِ مِنَ الجِهَادِ في سَبِيلِ اللهِ، فَإِنْ كَانَ الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ تعالى لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا، فَبِرُّ الوَالِدَيْنِ لَيْسَ أَقَلَّ دَرَجَةً مِنْهُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْذَنْ للصَّحَابِيِّ بِالخُرُوجِ في الجِهَادِ إِلَّا بِإِذْنِ وَالِدَيْهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِعَظَمَةِ حَقِّ الوَالِدَيْنِ عَلَى الوَلَدِ.

«فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا»:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: حَقُّ الوَالِدَيْنِ مِنْ أَشَدِّ الحُقُوقِ وَأَعْظَمِهَا وَآكَدِهَا، وَإِنَّ القِيَامَ بِهَذَا التَّكْلِيفِ عَلَى وَجْهِهِ الأَتَمِّ مِنْ أَعْظَمِ الأُمُورِ وَأَصْعَبِهَا إِلَّا عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ تعالى لَهُ، فَالمُوَفَّقُ مَنْ هُدِيَ لِبِرِّ وَالِدَيْهِ، وَالمَحْرُومُ مَنْ صُرِفَ عَنْهُ.

روى النَّسَائِيُّ وَالبَيْهَقِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السَّلَمِيِّ، أَنَّ جَاهِمَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ.

فَقَالَ: «هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟».

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: «فَالْزَمْهَا، فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَا عَرَفَ قَدْرَ بِرِّ الوَالِدَيْنِ إِلَّا مَنِ الْتَزَمَ كِتَابَ اللهِ تعالى، وَسُنَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَالمُؤْمِنُ الحَقُّ لَا يَجْرُؤُ عَلَى عُقُوقِ الوَالِدَيْنِ، كَيْفَ يَجْتَرِئُ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ يَسْمَعُ حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، أَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنَ اللهِ.

قَالَ: «فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟».

قَالَ: نَعَمْ، بَلْ كِلَاهُمَا.

قَالَ: «فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنَ اللهِ؟».

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: «فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا»

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِبِرِّ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا أَحْيَاءً وَمَيْتِينَ.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 23/ جمادى الثانية /1439هـ، الموافق: 11/ آذار / 2018م