29ـ الإنسان في القرآن العظيم :وقفة مع حديث قاتل مائة نفس (5)

 

الإنسان في القرآن العظيم

29ـ وقفة مع حديث قاتل مائة نفس (5)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: حَدِيثُ قَاتِلِ مِائَةِ نَفْسٍ فِيهِ مِنَ الكُنُوزِ وَالفَوَائِدِ الكَثِيرَةِ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ، وَوَقَفَ مَعَهُ وِقْفَةَ المُعْتَبِرِ المُسْتَفِيدِ، فَوَائِدَ مِنْ أَجَلِّ وَأَعْظَمِ الفَوَائِدِ التي يَسْتَفِيدُهَا الإِنْسَانُ.

مِنْ فَوَائِدِ حَدِيثِ قَاتِلِ مِائَةِ نَفْسٍ بَيَانُ فَضْلِ الصُّحْبَةِ الصَّالِحَةِ الطَّيِّبَةِ، وَاخْتِيَارُ الصَّاحِبِ الذي يُذَكِّرُكَ بِاللهِ تعالى، وَلَا يَحْرِمُكَ مِنْ نَصِيحَتِهِ، وَيُحَافِظُ عَلَيْكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِكَ التي بَيْنَ جَنْبَيْكَ.

مِنْ بَرَكَةِ الصُّحْبَةِ الصَّالِحَةِ الطَّيِّبَةِ أَنَّ اللهَ تعالى غَفَرَ لِهَذَا الرَّجُلِ الذي قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ الصَّادِقَةِ لِصُحْبَةِ الصَّالِحِينَ، وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِمْ، فَمَنْ نَوَى ذَلِكَ وَتَوَجَّهَ إلى صُحْبَةِ الصَّالِحِينَ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمْ، وَأَدْرَكَهُ المَوْتُ، غُفِرَ لَهُ، فَكَيْفَ بِالصَّاحِبِ الخَلِيلِ، وَالرَّفِيقِ القَرِيبِ للصَّالِحِينَ الأَخْيَارِ؟ حَقَّاً: «هُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: اعْتَبِرُوا بِقَوْلِ ذَاكَ الرَّجُلِ العَالِمِ الذي قَالَ لِقَاتِلِ مِائَةِ نَفْسٍ: «انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسَاً يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ.

فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ المَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبَاً مُقْبِلَاً بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرَاً قَطُّ.

فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ».

لَقَدِ سَعِدَ هَذَا العَبْدُ عِنْدَمَا صَدَقَ في التَّوَجُّهِ إلى الصُّحْبَةِ الصَّالِحَةِ، بَعْدَ أَنْ كَادَتِ الصُّحْبَةُ السَّيِّئَةُ لِقُرَنَاءِ السُّوءِ أَنْ تَخْتِمَ لَهُ بِخَاتِمَةٍ سَيِّئَةٍ؛ لَقَدْ أَمَاتَتِ الصُّحْبَةُ السَّيِّئَةُ لِقُرَنَاءِ السُّوءِ قَلْبَ هَذَا العَبْدِ، وَدَفَعَتْهُ لِارْتِكَابِ المُنْكَرَاتِ وَالكَبَائِرِ، وَزَيَّنَتْ لَهُ القَتْلَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَشَجَّعَتْهُ عَلَى ذَلِكَ؛ لَوْلَا أَنَّ اللهَ تعالى سَلَّمَ.

لَقَدْ كَانَتْ صُحْبَتُهُ لِقُرَنَاءِ السُّوءِ سَبَبَاً لِغِوَايَةِ الشَّيْطَانِ لَهُ، حَتَّى اسْتَجَابَ لَهُ في ارْتِكَابِ الجَرَائِمِ، وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ لَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ؛ بِسَبَبِ اسْتِجَابَتِهِ للشَّيْطَانِ.

أَهَمِّيَّةُ الصُّحْبَةِ الصَّالِحَةِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوبَاً عِنْدَ اللهِ تعالى فَلْيَكُنْ مِنَ التَّوَّابِينَ الصَّادِقِينَ ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ﴾.

وَمَنْ كَانَ صَادِقَاً في طَلَبِ التَّوْبَةِ فَعَلَيْهِ بِتَرْكِ قُرَنَاءِ السُّوءِ، وَمُصَاحَبَةِ الأَخْيَارِ الصَّالِحِينَ الذينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللهُ تعالى، روى أبو يعلى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ جُلَسَائِنَا خَيْرٌ؟

قَالَ: «مَنْ ذَكَّرَكُمُ اللهَ رُؤْيَتُهُ، وَزَادَ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ، وَذَكَّرَكُمْ بِالْآخِرَةِ عَمَلُهُ».

وَرَحِمَ اللهُ تعالى القَائِلَ:

وَقَاطِعْ لِمَنْ وَاصَـلْتَ أَيَّامَ غَفْلَةٍ    ***   فَـمَا وَاصَلَ الأَحْبَابَ إِلَّا مُـقَاطِعُ

وَجَانِبْ جَنَابَ الأَجْنَبِيِّ لَوْ انَّهُ    ***   لِقُرْبِ انْتِسَابٍ في المَنَامِ مُضَـاجِعُ

فَلِلنَّفْسِ مِنْ جُلَّاسِهَا كُلُّ نِسْبَةٍ    ***   وَمِنْ خُلَّةٍ للقَلْبِ تِلْكَ الطَّبَــائِعُ

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الجُلَسَاءُ إِذَا كَانُوا عَلَى غَيْرِ الصَّلَاحِ أَفْسَدُوا مَنْ جَالَسَهُمْ، لِأَنَّ الصَّاحِبَ سَاحِبٌ، وَالمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ.

الصُّحْبَةُ الصَّالِحَةُ مُعِينَةٌ للعَبْدِ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ، قَالَ تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطَاً﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ حَذَّرَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُصَاحَبَةِ الأَشْرَارِ قُرَنَاءِ السُّوءِ، وَحَرَّضَنَا عَلَى مُصَاحَبَةِ المُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنَاً، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ» رواه أبو داود والترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

لِأَنَّ الطِّبَاعَ سَرَّاقَةٌ، فَصُحْبَةُ الأَخْيَارِ تُورِثُ الخَيْرَ، كَمَا أَنَّ صُحْبَةَ الأَشْرَارِ تُورِثُ الـشَّرَّ، كَالرِّيحِ إِذَا مَرَّتْ عَلَى النَّتَنِ حَمَلَتْ نَتَنَاً، وَإِذَا مَرَّتْ عَلَى الطِّيبِ حَمَلَتْ طِيبَاً.

فَيَا مُرِيدَ التَّوْبَةِ بِصِدْقٍ، عَلَيْكَ أَنْ تَتَحَرَّى جَهْدَكَ مُصَاحَبَةَ الأَخْيَارِ وَمُجَالَسَتَهُمْ، لِأَنَّ مُجَالَسَتَهُمْ تَجْعَلُ الشِّرِّيرَ خَيِّرَاً، كَمَا أَنَّ صُحْبَةَ الأَشْرَارِ قَدْ تَجْعَلُ الخَيِّرَ شِرِّيرَاً.

قَالَ بَعْضُ الحُكَمَاءِ: مَنْ صَحِبَ خَيِّرَاً أَصَابَ بَرَكَتَهُ، فَجَلِيسُ أَوْلِيَاءِ اللهِ تعالى لَا يَشْقَى؛ أَمَا قَرَأْنَا في كِتَابِ اللهِ تعالى قِصَّةَ أَهْلِ الكَهْفِ الذينَ صَحِبَهُمْ كَلْبٌ فَسَعِدَ؟

يَا مُرِيدَ التَّوْبَةِ بِصِدْقٍ، ابْتَعِدْ عَنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ، وَصَاحِبِ الأَخْيَارَ، أَمَا شَاهَدْتَ أَنَّ المَاءَ وَالهَوَاءَ يَفْسُدَانِ بِمُجَاوَرَةِ الجِيفَةِ، فَمَا ظَنُّكَ بِالنُّفُوسِ البَشَرِيَّةِ التي تَتَأَثَّرُ بِجُلَسَائِهَا؟

عَنِ المَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ   ***   فَكُلُّ قَرِينٍ بِالمُقَارَنِ مُهْتَدِي

يَا مُرِيدَ التَّوْبَةِ بِصِدْقٍ، اسْمَعْ كَلَامَ سَيِّدِنَا عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عِنْدَمَا يَقُولُ: عَلَيْكَ بِإِخْوَانِ الصِّدْقِ تَعِشْ في أَكْنَافِهِمْ، فَإِنَّهُمْ زِينَةٌ في الرَّخَاءِ وَعُدَّةٌ في البَلَاءِ، وَضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ حَتَّى يَجِيئَكَ مَا يُقِيلُكَ مِنْهُ، وَاعْتَزِلْ عَدُوَّكَ، وَاحْذَرْ صَدِيقَكَ إِلَّا الأَمِينَ، وَلَا أَمِينَ إِلَّا مَنْ يَخْشَى اللهَ، وَلَا تَصْحَبِ الفَاجِرَ فَتَتَعَلَّمَ مِنْ فُجُورِهِ، وَلَا تُطْلِعْهُ عَلَى سِرِّكَ، وَاسْتَشِرْ في أَمْرِكَ الذينَ يَخْشَوْنَ اللهَ تعالى.

يَا مُرِيدَ التَّوْبَةِ بِصِدْقٍ، اسْمَعْ كَلَامَ سَيِّدِنَا عَلِيِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَا تُؤَاخِي الْأَحْمَقَ وَلَا الْفَاجِرَ، أَمَّا الْأَحْمَقُ فَمَدْخَلُهُ وَمَخْرَجُهُ شَيْنٌ عَلَيْكَ، وَأَمَّا الْفَاجِرُ فَيُزَيِّنُ لَك فِعْلَهُ وَيَوَدُّ أَنَّكَ مِثْلَهُ.

وَاسْمَعْ إلى قَوْلِهِ أَيْضَاً: لَا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ مَنْ يَجْتَمِعُ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ: مَنْ إذَا حَدَّثَك كَذَبَكَ، وَإِذَا ائْتَمَنْتَهُ خَانَكَ، وَإِذَا ائْتَمَنَكَ اتَّهَمَكَ، وَإِذَا أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ كَفَرَكَ، وَإِذَا أَنْعَمَ عَلَيْكَ مَنَّ عَلَيْكَ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ حَدِيثَ قَاتِلِ مِائَةِ نَفْسٍ عَلَّمَ كُلَّ مَنْ أَرَادَ التَّوْبَةَ بِصِدْقٍ وَجِدٍّ أَنَّ الـشَّرْطَ الأَسَاسِيَّ لِتَحْسِينِ حَالِ التَّائِبِ الابْتِعَادُ عَنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ، وَالالْتِحَاقُ بِالأَخْيَارِ الصَّالِحِينَ «هُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ».

قَاتِلُ مِائَةِ نَفْسٍ تَوَجَّهَ بِصِدْقٍ إلى الأَخْيَارِ وَالصَّالِحِينَ فَخُتِمَ لَهُ عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمْ، فَكَيْفَ بِمَنْ وَصَلَ إِلَيْهِمْ وَجَالَسَهُمْ وَصَدَقَ في صُحْبَتِهِمْ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَاللهِ الذي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَا أَسْعَدَ مِنَ التَّائِبِ، وَلَا أَسْعَدَ مِمَّنِ انْكَسَرَ قَلْبُهُ لِرَبِّهِ وَسَيِّدِهِ وَمَوْلَاهُ، وَلَا أَسْعَدَ مِمَّنْ صَدَقَ في صُحْبَةِ الأَخْيَارِ، وَلَا أَسْعَدَ مِمَّنِْ تَرَكَ صُحْبَةَ الأَشْرَارِ.

اللَّهُمَّ دُلَّنَا عَلَى مَنْ يَدُلُّنَا عَلَيْكَ، وَأَوْصِلْنَا بِالذي يُوصِلُنَا إِلَيْكَ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 26/ جمادى الثانية /1439هـ، الموافق: 14/ آذار / 2018م