590ـ خطبة الجمعة: إعطاء الأولاد حقوقهم صغاراً

 

590ـ خطبة الجمعة: إعطاء الأولاد حقوقهم صغاراً

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: أَبْنَاؤُنَا هُمُ المُسْتَقْبَلُ، وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ، وَوَاقِعٌ لَا خَيَالٌ، لِذَا وَجَبَ عَلَى الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ صَرْفُ الهَمِّ الأَكْبَرِ إلى تَرْبِيَتِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا مُسْتَأْمَنِينَ عَلَى دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

فَهَذَا سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَطْمَئِنُّ عَلَى أَوْلَادِهِ عِنْدَ حُضُورِ أَجَلِهِ فَيَسْأَلُهُمْ: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدَاً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾.

مُلَاطَفَتُهُمْ ومُدَاعَبَتُهُمْ صِغَارَاً:

يَا عِبَادَ اللهِ: يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ تَكُونُ تَرْبِيَةُ الأَوْلَادِ وَهُمْ صِغَارٌ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هُوَ المُرَبِّي للـبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا، مُنْذُ نُعُومَةِ أَظْفَارِهَا، حَتَّى تُصْبِحَ أُمَّةً تَسْتَطِيعُ حَمْلَ الأَمَانَةِ التي عَرَضَهَا اللهُ تعالى عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا، وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا، وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ.

يَا أَيُّهَا الآبَاءُ وَالأُمَّهَاتُ، لِنَسْمَعْ إلى الحَدِيثِ الذي رواه الإمام البخاري ومسلم، حَتَّى نَتَعَلَّمَ مِنْهُ التَّرْبِيَةَ الصَّحِيحَةَ لِأَبْنَائِنَا.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقَاً، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو عُمَيْرٍ فَطِيمَاً، قَالَ: فَكَانَ إِذَا جَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَرَآهُ، قَالَ: «أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ» ـ وَالنُّغَيْرُ: فَرْخُ العُصْفُوْرِ ـ.

وروى أبو داود والحاكم عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَعْثُرَانِ وَيَقُومَانِ، فَنَزَلَ فَأَخَذَهُمَا، فَصَعِدَ بِهِمَا الْمِنْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: «صَدَقَ اللهُ: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾. رَأَيْتُ هَذَيْنِ فَلَمْ أَصْبِرْ»؛ ثُمَّ أَخَذَ فِي الْخُطْبَةِ (وَذَلِكَ مِن رَأْفَتِهِ وَشَفَقَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ).

إِعْطَاؤُهُمْ حَقَّهُمْ وَلَو كَانُوا صِغَارَاً:

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَتَعَلَّمْ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يُعْطِي الوَلَدَ حَقَّهُ، وَلَو كَانَ صَغِيرَاً، روى الإمام البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِشَرَابٍ، فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ.

فَقَالَ لِلْغُلَامِ: «أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ؟».

فَقَالَ الغُلَامُ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدَاً.

قَالَ: فَتَلَّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ (وَضَعَهُ في يَدِهِ وَدَفَعَهُ إِلَيْهِ).

التَّحْذِيرُ مِنَ الكَذِبِ عَلَى الأَوْلَادِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ وَجَّهَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الآبَاءَ وَالأُمَّهَاتِ إلى صِدْقِ القَوْلِ مَعَ الأَوْلَادِ وَلَو كَانُوا صِغَارَاً، وَحَذَّرَ مِنَ الكَذِبِ عَلَيْهِمْ.

روى أبو داود عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ: دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمَاً وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا، فَقَالَتْ: هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ.

فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ؟».

قَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرَاً.

فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئَاً كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ».

وَهَذِهِ تَرْبِيَةٌ بِالقُدْوَةِ الحَسَنَةِ، فَمَنْ أَرَادَ مِنْ أَبْنَائِهِ الصِّدْقَ كِبَارَاً، فَلْيَحْذَرْ مِنَ الكَذِبِ عَلَيْهِمْ صِغَارَاً، لِأَنَّ عَيْنَ الأَبْنَاءِ عَلَى أَقْوَالِ وَأَفْعَالِ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ.

التَّحْذِيرُ مِنْ إِطْعَامِهِمُ الحَرَامَ:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِذَا أَرَدْنَا بِرَّ أَبْنَائِنَا، فَعَلَيْنَا أَنْ لَا نُطْعِمَهُمْ إِلَّا الحَلَالَ، وَأَنْ نَحْذَرَ الحَرَامَ، لِأَنَّ مَنْ أَكَلَ الحَرَامَ عَصَى اللهَ تعالى في أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَلِأَنَّ آكِلَ الحَرَامِ لَا يُوَفَّقُ لِفِعْلِ الطَّاعَاتِ وَالمَبَرَّاتِ المَقْبُولَةِ عِنْدَ اللهِ تعالى.

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَرِيصَاً كُلَّ الحِرْصِ عَلَى أَن لَا تَدْخُلَ لُقمَةُ حَرَامٍ إلى جَوْفِ سِبْطِهِ سَيِّدِنَا الحَسَنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كِخْ كِخْ، ارْمِ بِهَا، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ؟».

يَا عِبَادَ اللهِ: كُونُوا عَلَى يَقِينٍ مَنْ رُبِّيَ عَلَى شَيْءٍ في الصِّغَرِ، دَامَ مَعَهُ إلى الكِبَرِ، روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي الْحَوْرَاءِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ حَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَسُئِلَ مَا عَقَلْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ أَو عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ـ.

قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى جَرِينٍ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَأَخَذْتُ تَمْرَةً، فَأَلْقَيْتُهَا فِي فِيَّ، فَأَخَذَهَا بِلُعَابِي.

فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: وَمَا عَلَيْكَ لَوْ تَرَكْتَهَا؟

قَالَ: «إِنَّا آلَ مُحَمَّدٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ».

قَالَ: وَعَقَلْتُ مِنْهُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَصْرِفَ هَمَّنَا الأَكْبَرَ إلى تَرْبِيَةِ أَبْنَائِنَا، حَتَّى يَكُونُوا حَمَلَةً لِرِسَالَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى يَكُونُوا أَهْلَاً للدِّفَاعِ عَنْ حِيَاضِ هَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، حَتَّى يُبَاهِي سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِنَا وَبِذُرِّيَّتِنَا الأُمَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ.

فَيَا أَيُّهَا الآبَاءُ وَالأُمَّهَاتُ، كُونُوا لَطِيفِينَ بِأَبْنَائِكُمْ وَهُمْ صِغَارٌ، دَاعِبُوهُمْ، وَعَلِّمُوهُمْ حُسْنَ الخُلُقِ مُنْذُ نُعُومَةِ أَظْفَارِهِمْ، لِأَنَّ هَذَا يَنْطَبِعُ في نُفُوسِهِمْ، وَدَرِّبُوهُمْ عَلَى إِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مُنْذُ نُعُومَةِ أَظْفَارِهِمْ، وَذَلِكَ بِإِعْطَائِهِمْ حُقُوقَهُمْ وَهُمْ صِغَارٌ.

وَاحْذَرُوا مِنَ الكَذِبِ عَلَيْهِمْ، وَلَو بِكَلِمَةٍ، عَلِّمُوهُمُ الصِّدْقَ، وَذَلِكَ بِصِدْقِكُمْ مَعَهُمْ.

وَاحْذَرُوا مِنْ أَنْ تُطْعِمُوهُمْ لُقْمَةً وَاحِدَةً مِنْ حَرَامٍ، لِأَنَّ مَنْ أَكَلَ الحَرَامَ حُرِمَ الطَّاعَاتِ المَقْبُولَةَ عِنْدَ اللهِ تعالى، وَلَو فَعَلَ الطَّاعَاتِ في الظَّاهِرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ» رواه الترمذي عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَا رَبِّ هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامَاً. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 28/ جمادى الثانية /1439هـ، الموافق: 16/ آذار / 2018م