15ـ مدحه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الفصاحة وكراهيته اللحن

 

من كتاب سيدنا محمد رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

15ـ مدحه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الفصاحة وكراهيته اللحن

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني   ***   هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا

كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ   ***    لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا

يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا رَأَيْنَا أَفْصَحَ مِنْكَ؟

فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْنِي لَحَّانَاً (أَيْ: بَلْ جَعَلَ لِسَانِي لِسَانَاً عَرَبِيَّاً مُبِينَاً) اخْتَارَ لِي خَيْرَ الكَلَامِ: كِتَابَهُ القُرْآنَ». عَزَاهُ في الجَامِعِ الصَّغِيرِ وَشَرْحِهِ إلى الشِّيرَازِيِّ في الأَلْقَابِ وَإِلَى الدَّيْلَمِيِّ في الفِرْدَوْسِ.

وَفِي المُسْتَدْرَكِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَقْبَلَ العَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَلَهُ ضَفِيرَتَانِ وَهُوَ أَبْيَضُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَبَسَّمَ.

فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَضْحَكَكَ؟ أَضْحَكَ اللهُ سِنَّكَ.

فَقَالَ: «أَعْجَبَنِي جَمَالُ عَمِّ النَّبِيِّ» صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَقَالَ الْعَبَّاسُ: مَا الْجَمَالُ فِي الرِّجَالِ؟

قَالَ: «اللِّسَانُ». قَالَ الحَافِظُ الزَّرْقَانِيُّ: وَهُوَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ.

وَعِنْدَ العَسْكَرِيِّ: مَا الجَمَالُ في الرَّجُلِ؟

قَالَ: «فَصَاحَةُ لِسَانِهِ». وَرَوَاهُ القَضَاعِيُّ وَالخَطِيبُ، وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعَاً: الجَمَالُ: صَوَابُ المَقَالِ، وَالكَمَالُ: حُسْنُ الفِعَالِ بِالصِّدْقِ.

وَرَوَى العَسْكَرِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: مَرَّ عُمَرُ بِقَوْمٍ يَرْمُونَ، فَقَالَ: بِئْسَمَا رَمَيْتُمْ.

فَقَالُوا: إِنَّا مُتَعَلِّمِينَ

فَقَالَ عُمَرُ: لَذَنْبُكُمْ في لَحْنِكُمْ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ ذَنْبِكُمْ في رَمْيِكُمْ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «رَحِمَ اللهُ امْرَءَاً أَصْلَحَ مِنْ لِسَانِهِ» اهـ، كَمَا في شَرْحِ المَوَاهِبِ.

(وَقَوْلُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُبَيِّنُ مَكَانَةَ فَصَاحَةِ اللِّسَانِ، فَكَانَ تَأَثُّرُهُ مِنْ لَحْنِهِمْ أَكْثَرَ مِنْ تَأَثُّرِهِ بِسُوءِ رَمْيِهِمْ؛ فَقَوْلُهُمْ إِنَّا مُتَعَلِّمِينَ: خَطَأٌ، صَوَابُهُ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّا مُتَعَلِّمُونَ).

وَقَدْ جَمَعَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ الدَّوَاوِينَ الجَامِعَةَ لِبَعْضِ جَوَامِعِ كَلِمِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْهَا أَرْبَعِينَ حَدِيثَاً، لَعَلَّ اللهَ تعالى يَكْتُبُ لَنَا أَجْرَ مَا وَرَدَ في الحَدِيثِ الذي رَوَاهُ ابْنُ النَّجَّارِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَفِظَ عَلَى أُمَّتِي أَرْبَعِينَ حَدِيثَاً مِنْ سُنَّتِي أَدْخَلْتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ في شَفَاعَتِي».

وَفِي رِوَايَةِ ابْنُ عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: « مَنْ حَفِظَ عَلَى أُمَّتِي أَرْبَعِينَ حَدِيثَاً مِنَ السُّنَّةِ كُنْتُ لَهُ شَفِيعَاً وَشَهِيدَاً يَوْمَ القِيَامَةِ».

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ: طُرُقُهُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: الحَدِيثُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَأَنَسٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَمُعَاذٍ، وَأَبِي أُمَامَةَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي سَعِيدٍ، بِأَسَانِيدَ فِيهَا كُلُّهَا مَقَالٌ، لَيْسَ للتَّصْحِيحِ فِيهَا مَجَالٌ، لَكِنْ كَثْرَةُ طُرُقِهِ تُقَوِّيهِ، وَأَجْوَدُ طُرُقِهِ خَبَرُ مُعَاذٍ مَعَ ضَعْفِهِ، اهـ كَمَا في شَرْحِ فَيْضِ القَدِيرِ؛ وَانْظُرْ كَلَامَ العَلَّامَةِ ابْنِ حَجَرٍ المَكِّيِّ في شَرْحِهِ عَلَى الأَرْبَعِينَ؛ وَعَلَى القَوْلِ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ ـ مَعَ تَعَدُّدِ طُرُقِهِ ـ فَإِنَّ الجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الضَّعِيفَ يُعْمَلُ بِهِ في فَضَائِلِ الأَعْمَالِ، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ في شَرْحِنَا عَلَى البَيْقُونِيَّةِ.

الحَدِيثُ الأَوَّلُ في وَصِيَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: يُبَيِّنُ لَهُ فِيهَا مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ المُؤْمِنُ مَعَ اللهِ تعالى، روى الترمذي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَاً، فَقَالَ: «يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَو اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَو اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَـضُرُّوكَ بِـشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ، وَجَفَّتْ الصُّحُفُ»

زَادَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في رِوَايَتِهِ: «تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى مَا تَكْرَهُهُ خَيْرٌَ كَثِيرٌ، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرَاً».

الحَدِيثُ الثَّانِي في وَصِيَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:

روى الترمذي عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي (يُرْوَى بِالإِفْرَادِ وَالتَّثْنِيَةِ) فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَعُدَّ نَفْسَكَ فِي أَهْلِ القُبُورِ».

وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَأَحْمَدَ زِيَادَةٌ في أَوَّلِهِ: «اعْبُدِ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ».

وَهَذِهِ الوَصِيَّةُ فِيهَا بَيَانُ مَرَاحِلِ السَّيْرِ وَالسُّلُوكِ إلى مَقَامِ مَلِكِ المُلُوكِ، وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ المَرَاحِلُ الثَّلَاثَةُ، جَمِيعَ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ، وَمَقَامَاتِ الوَاصِلِينَ، وَلَنَا في شَرْحِ هَذَا الحَدِيثِ بَحْثٌ وَاسِعٌ نَفِيسٌ، نَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى.

الحَدِيثُ الثَّالِثُ يُبَيِّنُ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ العَمَلَ الذي يَجْعَلُ المُسْلِمَ مَحْبُوبَاً عِنْدَ اللهِ، وَعِنْدَ النَّاسِ: روى ابن ماجه عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ». وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنِ الشَّيْخِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مُعْضَلَاً، كَمَا في تَرْغِيبِ المُنْذِرِيِّ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الحَدِيثُ الرَّابِعُ يُوصِي فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَكُونَ الإِنْسَانُ كَلَّاً عَلَى النَّاسِ، طَامِعَاً فِيمَا عِنْدَهُمْ، وَأَنْ يَتَوَجَّهَ بِكُلِّيَّتِهِ إلى كُلٍّ مِنْ صَلَوَاتِهِ، لِأَنَّهَا رُبَّمَا كَانَتْ آخِرَ صَلَاتِهِ:

عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوْصِنِي وَأَوْجَزْ.

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكَ بِالْإِيَاسِ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَإِيَّاكَ وَالطَّمِعَ فَإِنَّهُ الْفَقْرُ الْحَاضِرُ، وَصَلِّ صَلَاتَكَ وَأَنْتَ مُوَدَّعٌ، وَإِيَّاكَ وَمَا تَعْتَذِرُ مِنْهُ».

قَالَ الحَافِظُ المُنْذِرِيُّ: رَوَاهُ الحَاكِمُ وَالبَيْهَقِيُّ في الزُّهْدِ، وَقَالَ الحَاكِمُ ـ وَاللَّفْظُ لَهُ ـ صَحِيحُ الإِسْنَادِ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. اهـ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 2/رجب /1439هـ، الموافق: 19/ آذار / 2018م