124ـمع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم : قد علمت، ولكني رحمته

 

مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

124ـ قد علمت، ولكني رحمته

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ خِلَالِ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾. نَعْرِفُ مَدَى حِرْصِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الحِرْصِ الغَرِيبِ العَجِيبِ عَلَى هِدَايَةِ النَّاسِ جَمِيعَاً، وَدَعْوَتِهِمْ إلى اللهِ تعالى، حَتَّى خَاطَبَهُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ مُعَاتِبَاً بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾. وَبِقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفَاً﴾. وَبِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾. وَبِقَوْلِهِ تعالى: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ أَكْرَمَهُ اللهُ تعالى بِالنُّورِ، وَجَعَلَهُ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ يَأْسَى وَيَحْزَنُ عَلَى الذينَ يَعِيشُونَ في الظُّلُمَاتِ وَعَلَى الذينَ انْطَمَسَتْ بَصَائِرُهُمْ، يَأْسَى وَيَحْزَنُ عَلَى مَنْ تَنْزَلِقُ أَقْدَامُهُمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، مُتَأَسِّيَاً في ذَلِكَ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلِ: «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارَاً، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا، فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وَهُمْ يَقْتَحِمُونَ فِيهَا» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ رَبَّى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الصَّحَابَةَ الكِرَامَ عَلَى الحِرْصِ عَلَى هِدَايَةِ الخَلْقِ، وَالصَّبْرِ عَلَيْهِمْ، كَيْفَ لَا يُرَبِّيهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ الذي قَالَ لِمَلَكِ الجِبَالِ يَوْمَ الطَّائِفِ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئَاً»؟ رواه الشيخان عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

لَقَدْ رَبَّاهُمْ عَلَى الحِرْصِ عَلَى هِدَايَةِ الخَلْقِ جَمِيعَاً، وَعَدَمِ اليَأْسِ، رَبَّاهُمْ عَلَى عَظِيمِ الصَّبْرِ، وَسَعَةِ الصَّدْرِ، وَطُولِ النَّفْسِ، حَتَّى عَمَّ نُورُ الإِسْلَامِ أَرْجَاءَ المَعْمُورَةِ.

حِرْصُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى رُجُوعِ المُرْتَدِّينَ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذَا سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ حَرِيصَاً كُلَّ الحِرْصِ عَلَى رُجُوعِ المُرْتَدِّينَ إلى الإِسْلَامِ.

روى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ في المُصَنَّفِ ـ وَاللَّفْظُ لَهُ ـ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو مُوسَى بِفَتْحِ تُسْتَرَ ـ أَعْظَمُ مَدِينَةٍ بخوزستان ـ إلى عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَسَأَلَنِي عُمَرُ ـ وَكَانَ سِتَّةُ نَفَرٍ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ قَدِ ارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلَامِ، وَلَحِقُوا بِالمُشْرِكِينَ ـ فَقَالَ: مَا فَعَلَ النَّفَرُ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ؟

قَالَ: فَأَخَذْتُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ لِأَشْغَلَهُ عَنْهُمْ.

فَقَالَ: مَا فَعَلَ النَّفَرُ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ؟

قُلْتُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، قَوْمٌ ارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلَامِ، وَلَحِقُوا بِالمُشْرِكِينَ، مَا سَبِيلُهُمْ إِلَّا القَتْلُ.

فَقَالَ عُمَرُ: لَأَنْ أَكُونَ أَخَذْتُهُمْ سَلْمَاً (يَعْنِي مُنْقَادِينَ وَمُسَالِمِينَ مَعَ السَّلَامَةِ) أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ مِنْ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ.

قَالَ: قُلْتُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، وَمَا كُنْتَ صَانِعَاً بِهِمْ لَو أَخَذْتَهُمْ؟

قَالَ: كُنْتُ عَارِضَاً عَلَيْهِمُ البَابَ الذي خَرَجُوا مِنْهُ، أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ، قَبِلْتُ مِنْهُمْ، وَإِلَّا اسْتَوْدَعْتُهُمُ السِّجْنَ.

وَفِي رِوَايَةٍ للبَيْهَقِيِّ وَمَالِكٍ في المُوَطَّأِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِئِ أَنَّهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى، فَسَأَلَهُ عَنِ النَّاسِ فَأَخْبَرَهُ، ثُمَّ قَالَ: هَلْ كَانَ فِيكُمْ مِنْ مُغَرِّبَةٍ خَبَرٌ؟ (أَيْ: هَلْ جَاءَ خَبَرٌ جَدِيدٌ مِنْ بَلَدٍ بَعِيدٍ).

فَقَالَ: نَعَمْ، رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ.

قَالَ: فَمَا فَعَلْتُمْ بِهِ؟

قَالَ: قَرَّبْنَاهُ، فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ.

قَالَ عُمَرُ: هَلَّا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثَاً، وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفَاً، وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ، أَوْ يُرَاجِعَ أَمْرَ اللهِ؛ اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَحْضُرْ، وَلَمْ آمُرْ، وَلَمْ أَرْضَ إِذْ بَلَغَنِي.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ شَدِيدَ الحِرْصِ عَلَى هِدَايَةِ خَلْقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

روى مُسَدَّدٌ وَابْنُ عَبْدِ الحَكَمِ ـ كَمَا في كَنْزِ العُمَّالِ ـ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى عُمَرَ يَسْأَلُهُ عَنْ رَجُلٍ أَسْلَمَ ثُمَّ كَفَرَ، ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ كَفَرَ، فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارَاً، أَيُقْبَلُ مِنْهُ الْإِسْلَامُ؟

فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: اقْبَلْ مِنْهُ الإِسْلَامَ مَا قَبِلَ اللهُ مِنْهُ، اعْرِضْ عَلَيْهِ الإِسْلَامَ، فَإِنْ قَبِلَ فَاتْرُكْهُ، وَإِلَّا فَاضْرِبْ عُنُقَهُ.

قَدْ عَلِمْتُ، وَلَكِنِّي رَحِمْتُهُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ رَبَّى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَصحَابَهُ وَآلَ البَيْتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ عَلَى خُلُقِ الرَّحْمَةِ بِخَلْقِ اللهِ جَمِيعَاً، الذي هُوَ شَأْنُ الدُّعَاةِ إلى اللهِ تعالى.

جَاءَ في كَنْزِ العُمَّالِ مِنْ مُسْنَدِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الجَوْنِيِّ قَالَ: مَرَّ عُمَرُ بِرَاهِبٍ فَوَقَفَ، وَنُودِيَ الرَّاهِبُ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، فَاطَّلَعَ، فَإِذَا إِنْسَانٌ بِهِ مِنَ الضُّرِّ وَالاجْتِهَادِ وَتَرْكِ الدُّنْيَا، فَلَمَّا رَآهُ عُمَرُ بَكَى.

فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ نَصْرَانِيٌّ.

فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَلِمْتُ، وَلَكِنِّي رَحِمْتُهُ، ذَكَرْتُ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارَاً حَامِيَةً﴾. فَرَحِمْتُ نَصَبَهُ وَاجْتِهَادَهُ، وَهُوَ في النَّارِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الحِرْصُ عَلَى هِدَايَةِ النَّاسِ إلى دِينِ الحَقِّ وَإِنْ كَانُوا أَعْدَاءً وَمُجْرِمِينَ، هُوَ شِعَارُ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، وَشِعَارُ الصَّحَابَةِ وَآلِ البَيْتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.

وَمَنْ كَانَ حَرِيصَاً عَلَى هِدَايَةِ النَّاسِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَيِّنَ الجَانِبِ، دَمِثَ الأَخْلَاقِ، صَافِيَ النَّفْسِ، نَقِيَّ السَّرِيرَةِ، بَاذِلَاً للنَّصِيحَةِ، حَامِلَاً هَمَّ الآخِرَةِ، مُسَارِعَاً لِخِدْمَةِ الآخَرِينَ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا كَذَلِكَ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 19/ رجب /1439هـ، الموافق: 5/ نيسان / 2018م