594ـ خطبة الجمعة: العبرة من حادثة الإسراء والمعراج

 

594ـ خطبة الجمعة: العبرة من معجزة الإسراء والمعراج

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: يَقُولُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ﴾. وَمِنْ أَيَّامِ اللهِ تعالى التي يَجِبُ عَلَى الأُمَّةِ أَنْ تَتَذَكَّرَهَا وَأَنْ لَا تَنْسَاهَا، يَوْمُ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ، حَيْثُ قَالَ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلَاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.

هَذَا الحَدَثُ العَظِيمُ فِيهِ عِظَاتٌ وَعِبَرٌ وَذِكْرَى، لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَو أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ.

هَذَا الحَدَثُ العَظِيمُ فِيهِ عِظَاتٌ وَعِبَرٌ وَذِكْرَى، لِكُلِّ ظَالِمٍ وَلِكُلِّ مَظْلُومٍ، إِنْ تَفَكَّرَ فِيهِ، لَعَلَّ الظَّالِمَ أَنْ يُرَاجِعَ الحِسَابَاتِ، وَلَعَلَّ المَظْلُومَ أَنْ يَتَحَلَّى بِخُلُقِ الصَّبْرِ.

لِأَنَّ حَادِثَةَ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ عَلَّمَتِ الجَمِيعَ بِأَنَّهُ مِنَ المُحَالِ دَوَامُ الحَالِ، فَالسَّعِيدُ مَنْ كَانَ إلى جَانِبِ الحَقِّ، وَالشَّقِيُّ مَنْ كَانَ إلى جَانِبِ البَاطِلِ.

هَلَاكُ الظَّالِمِينَ مُحَقَّقٌ:

يَا عِبَادَ اللهِ: حَادِثَةُ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ أَعْطَتْ دَرْسَاً عَمَلِيَّاً لِكُلِّ مَنْ سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ ظُلْمَ الآخَرِينَ، بِأَنَّ ظُلْمَهُ سَوْفَ يُؤَدِّي إلى هَلَاكِهِ عَاجِلَاً أَمْ آجِلَاً، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ﴾. فَهَلَاكُ الظَّلَمَةِ مُحَقَّقٌ، وَلَنْ يُفْلِحُوا لَا دُنْيَا وَلَا أُخْرَى، فَهَذِهِ قُرَيْشٌ ظَلَمَتْ وَجَارَتْ وَبَغَتْ وَتَآمَرَتْ وَكَادَتْ، وَآذَتْ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَيَّمَا إِيذَاءٍ؛ فَمَاذَا كَانَتِ النَّتِيجَةُ؟

النَّتِيجَةُ كَمَا قَالَ تعالى: ﴿لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ﴾. فَكَانَ بَغْيُهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَمَكْرُهَا عَلَى نَفْسِهَا، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَلَا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾.

لَقَدْ أَذَلَّهُمُ اللهُ تعالى بَعْدَ عِزٍّ، وَجَعَلَ كَيْدَهُمْ في نَحْرِهِمْ، وَوَقَفُوا بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَذِلَّاءَ يَلْتَمِسُونَ مِنْهُ العَفْوَ وَالصَّفْحَ، فَقَالَ لَهُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟».

قَالُوا: خَيْرَاً، أَخٌ كَرِيمٌ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ.

فَقَالَ صَاحِبُ الخُلُقِ العَظِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ» كَذَا في الرَّحِيقِ المَخْتُومِ.

نُصْرَةُ المَظْلُومِ مُحَقَّقَةٌ:

يَا عِبَادَ اللهِ: حَادِثَةُ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ أَعْطَتْ دَرْسَاً عَمَلِيَّاً لِكُلِّ مَظْلُومٍ بِأَنَّ نُصْرَتَهُ مِنَ اللهِ تعالى مُحَقَّقَةٌ طَالَ الزَّمَنُ أَمْ قَصُرَ، لِأَنَّ اللهَ تعالى فَتَحَ أَبْوَابَ السَّمَاءِ لِدَعْوَةِ المَظْلُومِ، وَأَقْسَمَ أَنَّهُ لَيَنْصُرَنَّهُ وَلَو بَعْدَ حِينٍ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإِمَامُ التِّرْمِذِيُّ في سُنَنِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالإِمَامُ الْعَادِلُ، وَدَعْوَةُ المَظْلُومِ، يَرْفَعُهَا اللهُ فَوْقَ الغَمَامِ، وَيَفْتَحُ لَهَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ».

 فَمَا مِنْ عَبْدٍ مَظْلُومٍ إِلَّا وَهُوَ مَنْصُورٌ، وَلَا يَسَعُهُ إِلَّا الصَّبْرُ وَالاشْتِغَالُ بِمَا كَلَّفَهُ اللهُ تعالى بِهِ، كَمَا أَخْبَرَ اللهُ تعالى عَنْ سَيِّدِنَا مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالَاً فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

نُصْرَةُ المَظْلُومِ مُحَقَّقَةٌ بِإِذْنِ اللهِ تعالى، بِشَرْطِ الصَّبْرِ وَالاسْتِقَامَةِ عَلَى شَرْعِ الله تعالى؛ أَلَمْ يَقُلْ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثَاً فَاحْفَظُوهُ؛ مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلِمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلَّا زَادَهُ اللهُ عِزَّاً، وَلَا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي كَبْشَةَ الأَنَّمَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

المِنْحَةُ كَانَتْ بَعْدَ المِحْنَةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: حَادِثَةُ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ دَرْسٌ عَمَلِيٌّ لِكُلِّ ظَالِمٍ، فَمَنْ أَصَرَّ عَلَى ظُلْمِهِ وَلَمْ يَتُبْ إلى اللهِ تعالى فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلهَلَاكِ وَلِسَخَطِ اللهِ تعالى عَلَيْهِ، كَمَا حَصَلَ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ.

وَهِيَ دَرْسٌ عَمَلِيٌّ لِكُلِّ مَظْلُومٍ مُنْضَبِطٍ بِضَوَابِطِ الشَّرِيعَةِ، بِأَنَّ اللهَ تعالى نَاصِرُهُ، وَأَنَّ بَعْدَ المِحْنَةِ مِنْحَةً، وَانْظُرُوا إلى آخِرِ آيَاتِ سُورَةِ النَّحْلِ وَأَوَّلِ سُورَةِ الإِسرَاءِ، قَالَ اللهُ تعالى لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾. فَعِنْدَمَا صَبَرَ وَانْضَبَطَ بِقَاعِدَةِ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾. جَاءَ التَّكْرِيمُ مِنَ اللهِ تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلَاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.

يَا سَيِّدِي يَا رَسُولَ اللهِ، لَقَدْ مَشَيْتَ عَلَى قَدَمَيْكَ الشَّرِيفَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ إلى الطَّائِفِ، وَمِنَ الطَّائِفِ إلى مَكَّةَ، وَمَا عَرَفُوا هَؤُلَاءِ قَدْرَكَ، وَرَدُّوا عَلَيْكَ دَعْوَتَكَ؛ فَجَاءَ البُرَاقُ في خِدْمَتِكَ مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأَقْصَى.

وَإِنْ لَم يَقْتَدِ بِكَ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَمِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، فَهَؤُلَاءِ سَادَةُ الـبَشَرِ، مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ يَقْتَدُونَ بِكَ، فَلَا تَحْزَنْ، وَإِنْ جَهِلَ قَدْرَكَ أَهْلُ الأَرْضِ، فَلَنْ يَجْهَلَ قَدْرَكَ أَهْلُ السَّمَاءِ؛ وَكَمْ هُوَ الفَارِقُ كَبِيرٌ بَيْنَ عَالَمِ أَهْلِ الأَرْضِ وَعَالَمِ أَهْلِ السَّمَاءِ؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَتَعَلَّمِ الدَّرْسَ العَمَلِيَّ مِنْ حَادِثَةِ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ، وَذَلِكَ بِالابْتِعَادِ عَنِ الظُّلْمِ وَالظَّالِمِينَ، لِأَنَّ عَاقِبَتَهُمْ وَخِيمَةٌ، وَلْنَصْبِرْ وَلْنُصَابِرْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ تعالى بِوَعْدِهِ الذي لَا يُخْلَفُ، فَبَعْدَ كُلِّ مِحْنَةٍ مِنْحَةٌ، فَاثْبُتُوا عَلَى شَرْعِ اللهِ تعالى، وَاحْذَرُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ.

اللَّهُمَّ لَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا بِذُنُوبِنَا مَنْ لَا يَخَافُكَ وَلَا يَخْشَاكَ وَلَا يَرْحَمُنَا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**      **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 27/ رجب /1439هـ، الموافق: 13/ نيسان / 2018م