11ـ بر الوالدين: الأم أعظم المحارم

 

بر الوالدين

11ـ الأم أعظم المحارم

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَمَّا كَانَتِ الأُمُّ أَعْظَمَ المَحَارِمِ وَأَجَلَّهَا وَأَشَدَّهَا حُرْمَةً، وَأَلْصَقَ المَحَارِمِ إلى نُفُوسِ الأَبْنَاءِ، اتَّفَقَتْ عَامَّةُ الشَّرَائِعِ السَّمَاوِيَّةِ ـ بَلْ حَتَّى الوَضْعِيَّةُ ـ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الأُمِّ، لِمَا لَهَا مِنَ المَهَابَةِ وَالقُدْسِيَّةِ وَالتَّجِلَّةِ وَالاحْتِرَامِ، في نُفُوسِ النَّاسِ، خَاصَّةً العَرَبَ، حَتَّى اسْتَقَرَّ هَذَا المَعْنَى في نُفُوسِ البَشَرِ.

لِذَا بَلَغَ الأَمْرُ ذُرْوَتَهُ إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يُحَرِّمَ امْرَأَةً عَلَيْهِ، أَنْ يَجْعَلَهَا كَأُمِّهِ في التَّحْرِيمِ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ لَهَا: هِيَ عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمِّهِ، فَلَمَّا كَانَتْ أُمُّهُ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، جَعَلَ امْرَأَتَهُ كَأُمِّهِ في التَّحْرِيمِ.

وَقَدْ شَنَّعَ اللهُ تعالى عَلَى هَؤُلَاءِ الذينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ، الذينَ يَجْعَلُونَهُنَّ كَأُمَّهَاتِهِمْ ـ وَهُوَ كَذِبٌ مُفْتَرَىً ـ

قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرَاً مِنَ الْقَوْلِ وَزُورَاً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينَاً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.

فَعُقُوبَةُ المُظَاهِرِ الذي شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِأُمِّهِ ـ وَهُوَ كَذِبٌ وَزُورٌ وَمُنْكَرٌ مِنَ القَوْلِ ـ أَنْ يُحَرِّرَ رَقَبَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَمَسَّهَا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَمَسَّهَا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينَاً.

وَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: ﴿مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾.

فَكُلُّ هَذَا دَالٌّ عَلَى عِظَمِ حَقِّ الأُمِّ، سَوَاءٌ في الحُرْمَةِ، أَو البِرِّ، أَو الإِحْسَانِ، أَو المَكَانَةِ، حَيْثُ جَعَلَ مَنْ شَبَّهَ زَوْجَتَهُ مِثْلَ أُمِّهِ ـ في التَّحْرِيمِ ـ تَلْزَمُهُ هَذِهِ الكَفَّارَةُ الشَّدِيدَةُ، حَتَّى لَا تُمْتَهَنَ مَكَانَةُ الأُمِّ، وَلَا يُتَلَاعَبَ بِشَرْعِ اللهِ تعالى، وَاللهُ تعالى أَعْلَمُ.

تَحْرِيمُ نِكَاحِ الأُمِّ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَمِنْ تَعْظِيمِ الأُمِّ وَالرَّحِمِ حَرَّمَ اللهُ تعالى نِكَاحَ الأُمِّ وَالخَالَةِ وَالعَمَّةِ عَلَى الوَلَدِ، صِيَانَةً للرَّحِمِ، وَحِفَاظَاً عَلَى القَرَابَةِ، كَمَا حَرَّمَ نِكَاحَ مَنْكُوحَةِ الأَبِ عُمُومَاً.

قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتَاً وَسَاءَ سَبِيلَاً * حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾.

فَقَدْ حَرَّمَتِ الآيَتَانِ نِكَاحَ زَوْجَةِ الأَبِ، وَنِكَاحَ الأُمِّ وَالعَمَّةِ وَالخَالَةِ وَالأُمِّ مِنَ الرَّضَاعَةِ، إِضَافَةً إلى تَحْرِيمِ نِكَاحِ البِنْتِ وَالأُخْتِ ـ نَسَبَاً أَو رَضَاعَةً ـ وَبَنَاتِ الأَخِ وَالأُخْتِ، وَأُمِّ الزَّوْجَةِ وَالرَّبِيبَةِ، وَزَوْجَةِ الابْنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَحْرِيمَاً مُؤَبَّدَاً، كَمَا حَرَّمَتِ الجَمْعَ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ.

وَإِذَا كَانَ تَحْرِيمُ نِكَاحِ الأُمِّ هُوَ تَعْظِيمٌ لَهَا، لِأَنَّهَا أُمُّ المَحَارِمِ، فَإِنَّ تَحْرِيمَ نِكَاحِ زَوْجَةِ الأَبِ هُوَ تَقْدِيرٌ للأَبِ، وَاسْتِمْرَارٌ للعَطْفِ وَالَمحَبَّةِ وَالصَّفَاءِ وَزَوَالِ الغَيْرَةِ مِنَ النُّفُوسِ، وَتَكْرِيمٌ لَهُ، وَإِعْظَامٌ وَتَحْرِيمٌ أَن تُوطَءَ مِنْ بَعْدِهِ، وَلِهَذَا تَحْرُمُ عَلَى الابْنِ بِمُجَرَّدِ العَقْدِ عَلَيْهَا مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ بالإِجْمَاعِ.

وَلِهَذَا قَالَ تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتَاً وَسَاءَ سَبِيلَاً﴾. وَالاقْتِرَابُ مِنَ الفَوَاحِشِ حَرَامٌ، لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾.

وَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئَاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانَاً وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾.

وَالزِنَا فَاحِشَةٌ مِنَ الفَوَاحِشِ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلَاً﴾.

وَقَدْ وُصِفَ الزِّنَا بِصِفَتَيْنِ: الفَاحِشَةِ وَإِسَاءَةِ السَّبِيلِ.

بَيْنَمَا زَادَ هُنَا في نِكَاحِ زَوْجَةِ الأَبِ، حَيْثُ جَعَلَهَا أَشَدَّ مِنَ الزِّنَا، حِينَمَا قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتَاً وَسَاءَ سَبِيلَاً﴾. حَيْثُ زَادَ: ﴿وَمَقْتَاً﴾. أَيْ: بُغْضَاً. أَيْ: هُوَ أَمْرٌ كَبِيرٌ في نَفْسِهِ، وَيُؤَدِّي إلى المَقْتِ، فَيَهْلَكُ الوَلَدُ بِهَذَا المَقْتِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَصَفَ اللهُ تعالى نِكَاحَ الوَلَدِ بِزَوْجَةِ أَبِيهِ بِثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ: بِالفَاحِشَةِ، وَالمَقْتِ، وَإِسَاءَةِ السَّبِيلِ؛ وَلِهَذَا جَعَلَ الشَّارِعُ الحَكِيمُ عُقُوبَةَ مَنْ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ أَنْ يُقْتَلَ.

روى الحاكم عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَقِيتُ خَالِي ـ وَفِي رِوَايَةٍ عَمِّي ـ أَبَا بُرْدَةَ وَمَعَهُ رَايَةٌ، فَقُلْتُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟

فَقَالَ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةَ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ، أَضْرِبُ عُنُقَهُ وَآخُذُ مَالَهُ.

فَإِذَا كَانَ هَذَا في نِكَاحِ زَوْجَةِ الأَبِ، حَيْثُ جَعَلَهُ اللهُ تعالى أَشَدَّ مِنَ الزِّنَا، فَكَيْفَ بِنِكَاحِ الأُمِّ، وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى.

وَلِهَذَا شَنَّعَ النَّبِيُّ المُصْطَفَى الكَرِيمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ في اتِّبَاعِهَا سُنَنَ الذينَ سَبَقُوهُمْ مِنَ الأُمَمِ، كَاليَهُودِ وَالنَّصَارَى، بِحَيْثُ لَو أَنَّ أَحَدَاً أَتَى أُمَّهُ ـ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى ـ لَيَكُونَنَّ في هَذِهِ الأُمَّةِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَهَذَا غَايَةُ التَّحْرِيمِ وَالنَّكَارَةِ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

نَسْأَلُ اللهَ تعالى سَعَادَةَ الدَّارَيْنِ بِبَرَكَةِ بِرِّنَا لِآَبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 6/ شعبان /1439هـ، الموافق: 22/ نيسان / 2018م