579ـ خطبة الجمعة: ماذا أودعت عامك المنصرم؟

 

579ـ خطبة الجمعة: ماذا أودعت عامك المنصرم؟

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: هَا نَحْنُ نُوَدِّعُ عَامَاً مِنْ أَعْمَارِنَا، وَنَسْتَقْبِلُ عَامَاً جَدِيدَاً، وَدَّعْنَا عَامَاً كَامِلَاً طُوِيَتْ فِيهِ صَحَائِفُ أَعْمَالِنَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يَدْرِي هَلْ طَوَاهَا بِسُوءِ عَمَلِهِ فَسَوَّدَ صَحِيفَةَ أَعْمَالِهِ، أَمْ بِصَالِحِ طَاعَاتِهِ فَبَيَّضَ صَحِيفَةَ عَمَلِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا سَيَرَى مَا قَدَّمَ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْـضَرَاً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيدَاً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾.

الذي سَوَّدَ صَحِيفَتَهُ بِسُوءِ عَمَلِهِ مِنَ المَعَاصِي الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ سَوفَ يَقُولُ: ﴿يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرَاً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدَاً﴾. وَيَقُولُ: ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعَاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ﴾. وَيَقُولُ: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾.

وَأَمَّا الذي بَيَّضَ صَحِيفَةَ عَمَلِهِ بِصَالِحِ طَاعَاتِهِ وَقُرُبَاتِهِ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَة، فَسَوْفَ يَقُولُ: ﴿هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾.

نِعْمَةُ العُمُرِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ نِعْمَةَ العُمُرِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَلَكِنَّ الكَثِيرَ مِنَ النَّاسِ مَنْ ضَيَّعَ هَذِهِ النِّعْمَةَ في مَعْصِيَةِ اللهِ تعالى، حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ المَوْتُ قَالَ: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحَاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾. وَقَالَ: ﴿رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: رَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

دَقَّـاتُ قَـلْـبِ المَـرْءِ قَـائِـلَـةٌ لَـهُ    ***   إنَّ الحَـيَـاةَ دَقَـائِقٌ وَثَوَانِي

فَارْفَعْ لِنَفْسِكَ بَعدْ مَوْتِكَ ذِكْرَهَا   ***   فَالذِّكْرُ لِلإِنْسَانِ عُمُرٌ ثَانِي

عَامٌ كَامِلٌ ذَهَبَ كَلَمْحِ البَصَرِ، وَنَسِيَ العَبْدُ مَا قَدَّمَ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ مَحْصِيٌّ عِنْدَ اللهِ تَبَارَكَ وتعالى ﴿أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ﴾. ذَهَبَ العَامُ وَمَا ذَهَبَ مِنْ عِلْمِ اللهِ، وَمَا ذَهَبَ مِنْ حِسَابِ اللهِ، وَمَا ذَهَبَ مِنَ اطِّلَاعِ اللهِ تعالى عَلَيْهِ.

عَامٌ كَامِلٌ انْطَوَى، وَقَدْ عَبَثَ فِيهِ العَابِثُونَ، وَقَتَلَ فِيهِ القَاتِلُونَ، وَسَلَبَ فِيهِ السَّالِبُونَ، وَنَهَبَ فِيهِ النَّاهِبُونَ، وَظَلَمَ فِيهِ الظَّالِمُونَ؛ وَبِالمُقَابِلِ أَجَادَ فِيهِ الصَّالِحُونَ المُخْلِصُونَ المُخْلَصُونَ، أَكْثَرُوا فِيهِ مِنَ الحَسَنَاتِ وَالطَّاعَاتِ وَالقُرُبَاتِ، وَإِغَاثَةِ المَلْهُوفِ، وَرَفْعِ الظُّلْمِ عَنِ الآخَرِينَ، وَإِطْفَاءِ نَارِ الفِتَنِ.

وَسَوْفَ يَرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا مَا قَدَّمَ في يَوْمٍ يُبَعْثَرُ فِيهِ مَنْ في القُبُورِ، وَيُحَصَّلُ فِيهِ مَا في الصُّدُورِ ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.

عُمُرُكَ أَمَانَةٌ عِنْدَكَ:

يَا عِبَادَ اللهِ: العُمُرُ عِنْدَ الإِنْسَانِ العَاقِلِ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ يَوْمِ القِيَامَةِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الترمذي عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ».

لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ حِرْصَاً عَلَى وَقْتِهِ، وَكَانَ لَا يَمْضِي لَهُ وَقْتٌ في غَيْرِ عَمَلٍ للهِ تعالى، أَو فِيمَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِصَلَاحِ نَفْسِهِ.

روى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي عَنْ دُخُولِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

فَقَالَ: كَانَ دُخُولُهُ لِنَفْسِهِ مَأْذُونَاً لَهُ فِي ذَلِكَ، فَكَانَ إِذَا أَوَى إِلَى مَنْزِلِهِ جَزَّأَ نَفْسَهُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ؛ جُزْءٌ للهِ، وجزءٌ لِأَهْلِهِ، وجزءٌ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ جُزْءٌ جَزَّأَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ فَيَرُدُّ ذَلِكَ عَلَى الْعَامَّةِ بِالْخَاصَّةِ فَلَا يَدَّخِرُ عَنْهُمْ شَيْئَاً.

يَا عِبَادَ اللهِ: عِنْدَمَا كَانَ العُمُرُ أَمَانَةً عِنْدَ الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ جَاءَ تَوْجِيهُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَنَا بِقَوْلِهِ: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعَاً، هَل تَنْتَظِرُونَ إلاَّ فَقْرَاً مُنْسِيَاً، أَو غِنَىً مُطغِيَاً، أَوْ مَرَضَاً مُفسِدَاً، أَوْ هَرَمَاً مُفَنِّدَاً، أَو مَوتَاً مُجْهِزَاً، أَو الدَّجَّالَ، فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وأَمَرُّ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

مَاذَا أَوْدَعْتَ عَامَكَ المُنْصَرِمَ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ ثُمَّ غِيَابَهَا في كُلِّ يَوْمٍ إِيذَانٌ للعَبْدِ بِأَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ دَارَ قَرَارٍ، وَإِنَّمَا هِيَ إلى زَوَالٍ وَفَنَاءٍ وَبَوَارٍ.

لِـكُـلِّ  شَيءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ   ***   فَلَا يُغَرَّ بطِيْبِ العَيْشَ إِنْسَانُ

هِيَ الأُمُورُ كَمَا شَاهَدْتَهَا دُوَلُ   ***   مَن سَـرَّهُ زَمَـنٌ سَاءَتْهُ أَزْمَانُ

يَا عِبَادَ اللهِ: لِيُفَكِّرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا مَا أَوْدَعَ في عَامِهِ المُنْصَرِمِ، وَمَا حَفِظَ فِيهِ مِنْ أَعْمَالٍ، وَلْيَسْمَعْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: هُنَاكَ شَرِيحَةٌ مِنَ النَّاسِ غَافِلَةٌ عَنِ اللهِ تعالى، مُتَّبِعَةٌ لِشَهَوَاتِهَا وَأَهْوَائِهَا، يُوَدِّعُونَ آخِرَ سَاعَاتِ العَامِ بِمَعْصِيَةِ اللهِ تعالى، مِنْ شُرْبِ الخُمُورِ، وَارْتِكَابِ الفَوَاحِشِ، وَالسَّمَاعِ للأَغَانِي، مَعَ الاخْتِلَاطِ المُحَرَّمِ، وَتَبْذِيرِ الأَمْوَالِ، وَيَسْتَقْبِلُونَ عَامَاً جَدِيدَاً بِتَرْكِ طَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، بِتَضْيِيعِ صَلَاةِ الفَجْرِ وَإِهْمَالِهَا ـ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى ـ يُوَدِّعُونَ عَامَاً وَيَخْتِمُونَهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ تعالى، وَيَسْتَقْبِلُونَ آخَرَ بِمَعْصِيَةِ اللهِ تعالى.

يَا عِبَادَ اللهِ: كُونُوا حَرِيصِينَ عَلَى نَقِيضِ ذَلِكَ، لَعَلَّ اللهَ تعالى يَرْحَمُ الأُمَّةَ بِكُمْ، وَدِّعُوا آخِرَ العَامِ بِالتَّوْبَةِ الصَّادِقَةِ، وَتِلَاوَةِ القُرْآنِ، وَذِكْرِ اللهِ تعالى، وَكَثْرَةِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَصَلَاةِ التَّهَجُّدِ؛ وَاسْتَقْبِلُوا عَامَاً جَدِيدَاً بِصَلَاةِ الفَجْرِ في جَمَاعَةٍ، وَكُونُوا مَصْدَرَ أَمْنٍ وَأَمَانٍ لِهَذِهِ الأُمَّةِ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِذَلِكَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 11/ ربيع الثاني /1439هـ، الموافق: 29/ كانون الأول / 2017م