582ـ خطبة الجمعة: ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئَاً إِدَّاً﴾

 

582ـ خطبة الجمعة: ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئَاً إِدَّاً﴾

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: مَا مِنْ كَلِمَةٍ يَتَفَوَّهُ بِهَا العَبْدُ إِلَّا وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهَا، وَمَسْؤُولٌ عَنْ نَتَائِجِهَا؛ وَلِأَهَمِّيَّتِهَا جَعَلَ اللهُ تعالى لَهَا مَلَكَاً مُوَكَّلَاً بِهَا، قَالَ تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾.

وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ لَهَا أَثَرٌ وَنَتَائِجُ، فَكَمْ مِنْ كَلِمَةٍ أَدَّتْ إلى خُصُومَةٍ وَقَطِيعَةٍ، وَرُبَّ كَلِمَةٍ أَشْعَلَتْ نَارَ حَرْبٍ دَامَتٍ سَنَوَاتٍ، وَوَاقِعُنَا المَرِيرُ أَكْبَرُ شَاهِدٍ عَلَى ذَلِكَ، وَرُبَّ كَلِمَةٍ فَرَّقَتْ شَمْلَ أُسْرَةٍ وَشَتَّتَتْهَا، وَرُبَّ كَلِمَةٍ غَابَ قَائِلُهَا في غَيَابَاتِ السُّجُونِ وَلَا يَعْلَمُ مَصِيرَهُ إِلَّا اللهُ تعالى.

يَا عِبَادَ اللهِ: بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُصْبِحُ العَبْدُ الكَافِرُ مُؤْمِنَاً، وَبِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُصْبِحُ العَبْدُ المُؤْمِنُ كَافِرَاً، بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يَسْتَحِقُّ دُخُولَ الجَنَّةِ، وَبِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يَسْتَحِقُّ الخُلُودَ في النَّارِ.

بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يَجْعَلُ اللهُ تعالى الحَلَالَ حَرَامَاً، وَالحَرَامَ حَلَالَاً، كَعَقْدِ الزَّوَاجِ، وَكَلِمَةِ الطَّلَاقِ؛ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُصْبِحُ العَبْدُ مُفْلِسَاً يَوْمَ القِيَامَةِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الـشَّرِيفِ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا المُفْلِسُ؟».

قَالُوا: المُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ.

فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ».

﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئَاً إِدَّاً﴾:

يَا عِبَادَ اللهِ: قَدْ يَتَفَوَّهُ العَبْدُ بِكَلِمَةٍ لَا يَهْتَمُ بِشَأْنِهَا، وَلَا يَتَفَكَّرُ في مَضْمُونِهَا، يَكُونُ لَهَا أَثَرٌ عَظِيمٌ في عَالَمِ السَّمَاءِ وَعَالَمِ الأَرْضِ، وَلَا يَتَفَطَّنُ لِهَذَا الأَثَرِ إِلَّا مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ العَظِيمَ بِتَدَبُّرٍ، انْظُرُوا في قَوْلِهِ تعالى في حَقِّ مَنْ سَبَّ الذَّاتَ الإِلَهِيَّةَ وَشَتَمَهَا: كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ القُدْسِيِّ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللهُ: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، أَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي لَنْ أُعِيدَهُ كَمَا بَدَأْتُهُ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ أَنْ يَقُولَ: اتَّخَذَ اللهُ وَلَدَاً، وَأَنَا الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُؤًا أَحَدٌ».

مَا هِيَ نَتِيجَةُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: للهِ وَلَدٌ؟ النَّتِيجَةُ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ تعالى بِقَوْلِهِ: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدَاً﴾. كَلِمَةُ شَتْمٍ للهِ تعالى وَسَبٍّ، مَا أَثَرُهَا في عَالَمِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ؟ أَثَرُهَا كَمَا قَالَ تعالى: ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئَاً إِدَّاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدَّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدَاً * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدَاً * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدَاً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدَّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدَاً﴾.

كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ كَادَتِ السَّمَاوَاتُ أَنْ تَتَفَطَّرَ بِسَبَبِهَا، وَكَادَتِ الأَرْضُ أَنْ تَنْشَقَّ، وَكَادَتِ الجِبَالُ أَنْ تَخِرَّ، لَوْلَا تَسْخِيرُ اللهِ تعالى هَذِهِ الكَائِنَاتِ لِهَذَا الإِنْسَانِ ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾. مَنْ يَتَصَوَّرُ أَثَرَ هَذِهِ الكَلِمَةِ التي يَتَفَوَّهُ بِهَا العَبْدُ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ أَعْظَمِ البَلَايَا، وَأَخْطَرِ الرَّزَايَا، أَنْ تَرَى كَلِمَةَ الكُفْرِ، وَسَبَّ الذَّاتِ الإِلَهِيَّةِ، أَو سَبَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَو الدِّينِ، انْـتَشَرَتْ في بِلَادِنَا انْتِشَارَاً خَطِيرَاً جِدَّاً، في الأَسْوَاقِ، فِي الشَّوَارِعِ، فِي المَحَلَّاتِ، في الجَامِعَاتِ، في المُؤَسَّسَاتِ، في صُفُوفِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ، وَفِي صُفُوفِ المُعَلِّمِينَ وَالُجهَّالِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدِ اسْتَخَفَّ أَقْوَامٌ بِكَلِمَةِ الكُفْرِ وَالسَّبِّ وَاللَّعْنِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى، وَبِذَلِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ، وَإِذَا مَاتُوا عَلَى ذَلِكَ لَا قَدَّرَ اللهُ تعالى خَسِرُوا الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ.

وَلَكِنَّ العَجِيبَ أَنَّ بَعْضَ القَوْمِ مَنْ يَسْتَغْرِبُ مِنْ هَذَا الكَلَامِ، وَيَقُولُ: كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تَلَفَّظَ بِهَا العَبْدُ في سَاعَةِ الغَضَبِ تَكُونُ هَذِهِ نَتَائِجُهَا؟ فَهَلْ مِنَ المَعْقُولِ هَذَا؟

نَعَمْ يَا عِبَادَ اللهِ، هَذَا مِنَ المَعْقُولِ، وَإِذَا كَانَتِ النَّتِيجَةُ غَيْرَ ذَلِكَ فَهَذَا لَيْسَ مِنَ المَعْقُولِ، لِمَاذَا لَا يَكُونُ هَذَا مِنَ المَعْقُولِ مَعَ أَنَّنَا نَحْنُ نَتَحَاسَدُ وَنَتَبَاغَضُ مِن أَجْلِ كَلِمَةٍ، وَالرَّجُلُ يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ مِنْ أَجْلِ كَلِمَةٍ، وَرَجُلٌ يُوضَعُ في السِّجْنِ مِنْ أَجْلِ كَلِمَةٍ، وَرَجُلٌ يُكْرَمُ مِنْ أَجْلِ كَلِمَةٍ؛ وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ آثَارَ كُلِّ كَلِمَةٍ تُقَالُ.

إِذَا شَتَمَكَ وَلَدُكَ يَا أَيُّهَا الوَالِدُ، أَلَا تَغْضَبُ؟ أَلَا تَحْرِمُهُ مِنَ التَّرِكَةِ؟ أَلَا أَلَا .......

إِذَا شَتَمَكَ طَالِبُكَ يَا أَيُّهَا المُدَرِّسُ، أَلَا تَغْضَبُ وَتُنْزِلُ بِهِ عُقُوبَةً؟

إِذَا شَتَمَكَ مَحْكُومُكَ يَا أَيُّهَا الحَاكِمُ، أَلَا تَغْضَبُ وَتُنْزِلُ بِهِ عُقُوبَةً؟

لِمَاذَا لَا تَسْتَهِينُ الأُمَّةُ بِهَذِهِ الأُمُورِ، وَتَسْتَهِينُ بِسَبِّ الذَّاتِ الإِلَهِيَّةِ، وَالحَضْرَةِ المُحَمَّدِيَّةِ، وَالتَّشْرِيعِ الذي هُوَ سِرُّ سَعَادَةِ البَشَرِيَّةِ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: أَتَوَجَّهُ إلى الإِخْوَةِ الذينَ اسْتَرْعَاهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى هَذِهِ الرَّعِيَّةِ، وَأَقُولُ لَهُمْ: لَقَدْ أَنْزَلْتُمْ بَعْضَ العُقُوبَاتِ فِيمَنْ عَقَّ وَالِدَيْهِ وَسَبَّهُمَا وَشَتَمَهُمَا، وَلَقَدْ أَنْزَلْتُمْ بَعْضَ العُقُوبَاتِ فِيمَنْ شَتَمَ وَلِيَّ الأَمرِ، وَأَنْزَلْتُمْ بَعْضَ العُقُوبَاتِ في حَقِّ مَنْ سَبَّ وَشَتَمَ القَانُونَ الذي وَضَعْتُمْ، وَهَذَا لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ.

وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ نَاصِحَاً وَاللهِ الذي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِنْزَالِ العُقُوبَةِ في حَقِّهِ هُوَ مَنِ اجْتَرَأَ عَلَى سَبِّ الذَّاتِ الإِلَهِيَّةِ، وَالحَضْرَةِ المُحَمَّدِيَّةِ، وَالشَّرِيعَةِ المُقَدَّسَةِ، لِأَنَّ مَنِ اجْتَرَأَ عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَوْلَى أَنْ يَجْتَرِئَ عَلَى سَبِّ وَالِدَيْهِ، وَوَلِيِّ أَمْرِهِ، وَقَانُونِهِ الذي يُحْكَمُ بِهِ.

وَفِي الخِتَامِ أَقُولُ: يَا عِبَادَ اللهِ، هَلْ رَأَيْتُمْ رَجُلَاً مُشْرِكَاً يَسُبُّ آلِهَتَهُ المُزَيَّفَةَ المَوْهُومَةَ؟ هَلْ رَأَيْتُمْ مَنْ عَبَدَ الشَّيْطَانَ مِنْ دُونِ اللهِ تعالى سَبَّ الشَّيْطَانَ؟ هَلْ رَأَيْتُمْ رَجُلَاً مِنْ غَيْرِ مِلَّةِ المُسْلِمِينَ يَسُبُّ مَعْبُودَهُ وَدِينَهُ؟

أَمِنَ المَعْقُولِ أَنْ تَرَى مَنْ هُمْ في ضَلَالٍ لَا يَسُبُّونَ مَعْبُودَهُمْ، وَلَا دِينَهُمْ، وَتَرَى المُسْلِمَ يَسُبُّ رَبَّهُ الذي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَكَوَّنَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ؟

أَمْ مِنَ المَعْقُولِ أَنْ يَسُبَّ المُسْلِمُ نَبِيَّ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، الذي أَرْسَلَهُ اللهُ تعالى رَحْمَةً للعَالَمِينَ؟

أَمْ مِنَ المَعْقُولِ أَنْ يَسُبَّ المُسْلِمُ كِتَابَ اللهِ تعالى وَشَرْعَهُ الذي قَالَ فِيهِ مَوْلَانَا: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدَّاً جَمِيلَاً. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 2/ جمادى الأولى /1439هـ، الموافق: 19/ كانون الثاني / 2018م