583ـ خطبة الجمعة: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ

 

583ـ خطبة الجمعة: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: عَلَيْنَا أَنْ نَهْتَمَّ بِمَا نَقُولُ، عَلَيْنَا قَبْلَ أَنْ نَتَكَلَّمَ أَنْ نَتَعَلَّمَ، لِأَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ لَهَا أَثَرٌ، فَبِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ تُرْضِي مَوْلَاكَ، وَبِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُسْخِطُ العَبْدُ رَبَّهُ، بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُرْفَعُ العَبْدُ في الجَنَّةِ دَرَجَاتٍ، وَبِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يَقَعُ العَبْدُ في دَرَكَاتِ نَارِ جَهَنَّمَ، وَبِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُلْقِي لَهَا العَبْدُ بَالَاً يُحْبِطُ عَمَلَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي.

روى الإمام مسلم عَنْ جُنْدَبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَ «أَنَّ رَجُلَاً قَالَ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلَانٍ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ» أَوْ كَمَا قَالَ.

وروى أبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كَانَ رَجُلَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ، وَالْآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَكَانَ لَا يَزَالُ المُجْتَهِدُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ: أَقْصِرْ، فَوَجَدَهُ يَوْمَاً عَلَى ذَنْبٍ، فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ.

فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبَاً؟

فَقَالَ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لَكَ، أَوْ لَا يُدْخِلُكَ اللهُ الْجَنَّةَ.

فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَقَالَ لِهَذَا المُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمَاً، أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرَاً؟ وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلْآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ».

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ. اهـ.

كَلِمَةٌ لَمْ يُلْقِ لَهَا ذَلِكَ الرَّجُلُ بَالَاً، وَلَا يَظُنُّ أَنَّهَا سَتَبْلُغُ هَذَا المَبْلَغَ، فَيَغْفِرُ اللهُ سُبْحَانَهُ وتعالى بِهَا لِذَلِكَ المُذْنِبِ العَاصِي، وَيُحْبِطُ أَجْرَ هَذَا الرَّجُلِ العَابِدِ، لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ دُونَ أَنْ يَعْلَمَ أَثَرَهَا.

يَا عِبَادَ اللهِ: إِذَا كَانَ هَذَا العَبْدُ قَالَ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لَكَ؛ حَبِطَ بِهَا عَمَلُهُ، فَكَيْفَ إِذَا سَبَّ اللهَ تعالى، أَو سَبَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَو سَبَّ الدِّينَ، أَ وسَبَّ شَعِيرَةً مِنْ شَعَائِرِ الإِسْلَامِ؟

فَقَدْنَا المَحَبَّةَ الصَّادِقَةَ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ فَقَدَ الكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ المَحَبَّةَ الصَّادِقَةَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا نَسْمَعُ كَثِيرَاً مِنْ أَلْفَاظِ السَّبِّ وَالشَّتْمِ للهِ تعالى، وَلِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؛ وَإِذَا مَا نَبَّهْتَ السَّابَّ وَالشَّاتِمَ، يَقُولُ لَكَ: وَاللهِ أَنَا لَا أَقْصِدُ، وَأَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَقْصِدَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ خَرَجَتِ الكَلِمَةُ في سَاعَةِ غَضَبٍ، أَو في لَحْظَةِ هَزْلٍ وَمُزَاحٍ؛ وَقَدْ حَكَمَ اللهُ تعالى عَلَى أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ﴾. عَنْ تِلْكَ الكَلِمَاتِ التي صَدَرَتْ مِنْهُمْ مِنْ سَبٍّ وَشَتْمٍ وَلَعْنٍ ﴿لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾. فَيَأْتِي الجَوَابُ مِنَ اللهِ تعالى آمِرَاً لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِهَؤُلَاءِ: ﴿قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾.

وَلَكِنْ يَا عِبَادَ اللهِ، مِنْ تَمَامِ فَضْلِ اللهِ تعالى أَنَّهُ يَعْفُو عَنِ التَّائِبِ تَوْبَةً صَادِقَةً نَصُوحَاً، وَيُعَذِّبُ المُـصِرَّ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ تعالى: ﴿إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: بِاللهِ عَلَيْكُمْ، هَلْ رَأَيْتُمْ مُحِبَّاً صَادِقَاً يَسُبُّ مَحْبُوبَهُ في سَاعَةِ غَضَبٍ، أَو في سَاعَةِ هَزْلٍ وَمُزَاحٍ؟ هَلْ رَأَيْتُمْ مُحِبَّاً صَادِقَاً لَا يُعَظِّمُ مَحْبُوبَهُ وَلَا يَغَارُ عَلَيْهِ؟ فَأَيْنَ حُبُّنَا للهِ تعالى، وَأَيْنَ حُبُّنَا لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَلِمَاتُ الكُفْرِ وَالسَّبِّ وَالشَّتْمِ وَاللَّعْنِ عَمَّتِ الدِّيَارَ وَالبِلَادَ؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: السَّبُّ وَالشَّتْمُ لَيْسَا مِنْ أَخْلَاقِ الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ بِشَكْلٍ عَامٍّ، فَالمُؤْمِنُ لَا يَشْتُمُ وَلَا يَسُبُّ عَبْدَاً مُؤْمِنَاً كَانَ أَمْ كَافِرَاً، بَلْ لَا يَسُبُّ وَلَا يَشْتُمُ حَيَوَانَاً، هَكَذَا رَبَّانَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، روى أبو داود عَنْ أَبِي جُرَيٍّ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ أَنَّهُ قَالَ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: اِعْهَدْ إِلَيَّ (أَيْ: أَوْصِنِي).

قَالَ: «لَا تَسُبَّنَّ أَحَدَاً».

قَالَ: فَمَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ حُرَّاً، وَلَا عَبْدَاً، وَلَا بَعِيرَاً، وَلَا شَاةً.

هَذَا هُوَ شَأْنُ المُؤْمِنِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الحاكم عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ المُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللِّعَانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ».

هَكَذَا رَبَّانَا الإِسْلَامُ، رَبَّانَا عَلَى طَهَارَةِ اللِّسَانِ وَنَظَافَتِهِ، فَإِذَا كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» رواه الشيخان عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَكَيْفَ بِسَبِّ اللهِ تعالى، وَسَبِّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

إِذَا كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ» رواه الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

فَكَيْفَ بِمَنْ يَلْعَنُ اللهَ تعالى، وَيَلْعَنُ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

اتَّقُوا اللهَ تعالى يَا عِبَادَ اللهِ، وَاحْذَرُوا مِنْ كَلِمَةِ الكُفْرِ؛ وَمَنِ ابْتُلِيَ بِذَلِكَ، فَلْيُجَدِّدْ إِسْلَامَهُ، وَلْيَصْدُقْ في تَوْبَتِهِ، وَلْيَعْزِمْ عَزْمَاً صَادِقَاً عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إلى ذَلِكَ، وَلْيَنْدَمْ أَشَدَّ النَّدَمِ عَلَى مَا فَعَلَ، وَلْيُجَدِّدِ العَقْدَ عَلَى زَوْجَتِهِ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُوَفِّقَنَا لِصَوْنِ أَلْسِنَتِنَا، وَيَرْزُقَنَا صِدْقَ التَّوْبَةِ وَالإِنَابَةِ قَبْلَ مَوْتِنَا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 9/ جمادى الأولى /1439هـ، الموافق: 26/ كانون الثاني / 2018م