610ـ خطبة الجمعة: الاستعداد ليوم الرحيل (3)

 

610ـ خطبة الجمعة: الاستعداد ليوم الرحيل (3)

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: يَقُولُ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، وَلاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ اليَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابٌ، وَغَدَاً حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ. رواه الإمام البخاري.

وَقَالَ الفُضَيْلُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: جُعِلَ الشَّرُّ كُلُّهُ فِي بَيْتٍ، وَجُعِلَ مِفْتَاحُهُ حُبَّ الدُّنْيَا، وَجُعِلَ الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي بَيْتٍ، وَجُعِلَ مِفْتَاحُهُ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا. مِنْ كِتَابِ الزُّهْدِ وَصِفَةِ الزَّاهِدِينَ.

وَقَالَ رَجُلٌ للفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا أَبَا عَلِيٍّ؟ فَكَانَ يَثْقُلُ عَلَيْهِ كَيْفَ أَصْبَحْتَ وَكَيْفَ أَمْسَيْتَ.

فَقَالَ: فِي عَافِيَةٍ.

فَقَالَ: كَيْفَ حَالُكَ؟

فَقَالَ: عَنْ أَيِّ حَالٍ تَسْأَلُ؟ عَنْ حَالِ الدُّنْيَا، أَوْ حَالِ الْآخِرَةِ؟ إِنْ كُنْتَ تَسْأَلُ عَنْ حَالِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ مَالَتْ بِنَا، وَذَهَبَتْ بِنَا كُلَّ مَذْهَبٍ، وَإِنْ كُنْتَ تَسْأَلُ عَنْ حَالِ الْآخِرَةِ، فَكَيْفَ تَرَى حَالَ مَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ وَضَعُفَ عَمَلُهُ، وَفَنِيَ عُمْرُهُ، ولَمْ يتَزَوَّدْ لِمَعَادِهِ، وَلَمْ يَتَأَهَّبْ لِلْمَوْتِ، ولَمْ يَخْضَعْ لِلْمَوْتِ، ولَمْ يَتَشَمَّرْ لِلْمَوْتِ، وَلَمْ يَتَزَيَّنْ لِلْمَوْتِ، وَتَزَيَّنَ لِلدُّنْيَا. كذا في حلية الأولياء.

تَعَاهَدُوا إِيمَانَكُمْ:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ قَلْبَ المَرْءِ وَإِنْ صَفَا، وَثَبَتَ عَلَى الإِيمَانِ، وَاسْتَلَذَّ بِحَلَاوَتِهِ، فَإِنَّهُ مُعَرَّضٌ للانْتِكَاسَةِ، وَمُهَيَّأٌ للانْقِلَابِ، قَدْ يَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ يَبْعُدُ، يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا سُمِّيَ الْقَلْبُ مِنْ تَقَلُّبِهِ، إِنَّمَا مَثَلُ الْقَلْبِ كَمَثَلِ رِيشَةٍ مُعَلَّقَةٍ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ تُقَلِّبُهَا الرِّيحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ» رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَهْتَمَّ بِقُلُوبِنَا التي هِيَ مَحَطَّةُ الإِيمَانِ، فَمَنِ اهْتَمَّ بِقَلْبِهِ كَانَ حَرِيصَاً عَلَى زِيَادَةِ الإِيمَانِ فِيهِ، وَذَلِكَ بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوِي عَبْدٌ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِالمَسَاجِدِ، وَشُغِفَ بِحُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَضَاءَ نُورُ الإِيمَانِ عَقْلَهُ، وَأَنَارَتِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ بَصِيرَتَهُ، بِمَنْ صَدَّ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى، فَرَضِيَ بِمُسْتَنْقَعَاتِ الرَّذِيلَةِ لَهُ مَوْرِدَاً وَمَـشْرَبَاً، وَامْتَلَكَتْ جَوَارِحَهُ المَعَاصِي، وَسَرَى في دَمِهِ دَاءُ التَّبَعِيَّةِ لِكُلِّ نَاعِقٍ، فَاسْتَمْتَعَ بِالشَّهَوَاتِ المُحَرَّمَةِ، وَسَلَّمَ قِيَادَهُ لِشَيْطَانِ الهَوَى، لَا وَاللهِ الذي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَا يَسْتَوُون.

وَهَلْ يَسْتَوِي مَنْ قَالَ اللهُ تعالى فِيهِ: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾. هَلْ يَسْتَوِي هَؤُلَاءِ مَعَ مَنْ قَالَ اللهُ تعالى فِيهِمْ: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾؟ لَا وَاللهِ لَا يَسْتَوُون.

يَا عِبَادَ اللهِ: مَنْ آمَنَ وَأَيْقَنَ بِأَنَّهُ رَاحِلٌ مِنْ هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، فَإِنَّهُ يَسْتَعِدُّ لِيَوْمِ الرَّحِيلِ، وَمِنَ الاسْتِعْدَادِ لِيَوْمِ الرَّحِيلِ تَعَاهُدُ الإِيمَانِ، فَتَعَاهَدُوا إِيمَانَكُمْ، مِنْ حَيْثُ الزِّيَادَةُ أَو النَّقْصُ، فَإِنَّهُ بِدُونِ مُرَاجَعَةِ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ عَن حَالِ إِيمَانِهِ، تَتَكَالَبُ عَلَيْهِ أَسْبَابُ الفُتُورِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَتُعْمِلُ مَعَاوِلَهَا الهَدَّامَةَ في بُنْيَانِهِ.

يَقُولُ سَيِّدُنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِنَّ مِنْ فِقْهِ الْعَبْدِ أَنْ يَتَعَاهَدَ إِيمَانَهُ وَمَا نَقَصَ مِنْهُ، وَمِنْ فِقْهِ الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَمُزْدَادٌ هُوَ أَمْ مُنْتَقِصٌ؟ وَإِنَّ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يَعْلَمَ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ أَنَّى تَأْتِيهِ؟. مِنْ كِتَابِ إِثْبَاتِ صِفَةِ العُلُوِّ لِابْنِ قُدَامَةَ المَقْدِسِيِّ.

وَكَانَ سَيّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: هَلُمُّوا نَزْدَدْ إِيمَانَاً؛ فَيَذْكُرُونَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ. مِنْ كِتَابِ عَوْنِ المَعْبُودِ.

مَا مِنْ شَرٍّ إِلَّا بِسَبَبِ الذُّنُوبِ وَالمَعَاصِي:

يَا عِبَادَ اللهِ: مَا مِنْ شَرٍّ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ إِلَّا وَسَبَبُهُ الذُّنُوبِ وَالمَعَاصِي، وَإِنَّ المَعَاصِي وَالذُّنُوبَ في مُجْتَمَعِنَا تَزْدَادُ يَوْمَاً بَعْدَ يَوْمٍ، وَكَأَنَّ هَذِهِ الأَزْمَةَ وَهَذِهِ الحَرْبَ مَا غَيَّرَتْ في القَوْمِ شَيْئَاً.

شَرَدَتِ الأُسَرُ، وَخَسِرَتِ الأُمَّهَاتُ فَلْذَاتِ أَكْبَادِهَا، وَأُتْلِفَتِ الأَمْوَالُ، وَتَهَدَّمَتِ البُيُوتُ وَمَصَادِرُ الرِّزْقِ، وَتَاهُ المَلَايِينُ في الأَرْضِ، بَعْضُ النَّاسِ فَقَدْ عَقْلَهُ، وَبَعْضُهُمُ الآخَرُ فَقَدَ دِينَهُ وَعِرْضَهُ. وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.

أَزْمَةٌ كَشَفَتِ السُّتُورَ، وَعَصَرَتِ القُلُوبَ، وَأَبْكَتِ العُيُونَ، فَالقَلِيلُ مَنْ فَهِمَ الـسِّرَّ فَعَادَ إلى اللهِ تعالى وَاسْتَغْفَرَ وَأَنَابَ، وَالكَثِيرُ مَنْ غَرِقَ في اللَّهْوِ وَالمَعَاصِي، وَتَاجَرَ بِالعِبَادِ وَالبِلَادَ، وَنَـسِيَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾. وَقَوْلَهُ تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾. فَهَلْ مِنْ مُصْغٍ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءَاً فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِابْنِ أَخِيهِ يَوْمَاً: يَا ابْنَ أَخِي، تَرَى النَّاسَ مَا أَكْثَرَهُمْ؟

قَالَ: نَعَم.

قَالَ: لَا خَيْرَ فِيهِمْ إِلَّا تَائِبٌ أَو تَقِيٌّ.

ثُمَّ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، تَرَى النَّاسَ مَا أَكْثَرَهُمْ؟

قَالَ: بَلَى.

قَالَ: لَا خَيْرَ فِيهِمْ إِلَّا عَالِمٌ أَو مُتَعَلِّمٌ. مِنْ تَفْسِيرِ القُرْطُبِيِّ.

وَاللهِ لَا خَيْرَ فِينَا إِذَ الَمْ نَتُبْ إلى اللهِ تعالى، وَإِذَا لَمْ نَتَّقْهِ، وَلَا خَيْرَ فِينَا إِذَا لَمْ نُعَلِّمْ وَلَمْ نَتَعَلَّمْ.

لِنَتَزَوَّدْ لِيَوْمِ الرَّحِيلِ بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَخَاصَّةً أَيَّامَ الفِتَنِ، فَأَيَّامُ الفِتَنِ تَحْتَاجُ إلى تَقْوَى للهِ تعالى، يَقُولُ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ: إِذَا وَقَعَتِ الفِتْنَةُ فَأَطْفِئُوهَا بِالتَّقْوَى.

قَالُوا: وَمَا التَّقْوَى؟

قَالَ: أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللهِ عَلَى نُورٍ مِنْ نُورِ اللهِ رَجَاءَ ثَوَابِ اللهِ، وَالتَّقْوَى تَرْكُ مَعَاصِي اللهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ خَوْفَ عِقَابِ اللهِ. مِن الإِبَانَةُ الكُبْرَى لِابْنِ بَطَّة.

يَا رَبَّنَا أَكْرِمْنَا بِالتَّقْوَى لِتَكُونَ زَادَاً لَنَا يَوْمَ رَحِيلِنَا مِنَ الدُّنْيَا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**      **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 14/ ذو القعدة /1439هـ، الموافق: 27/ تموز / 2018م