56ـ سعة قلبه الشريف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

 

من كتاب سيدنا محمد رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

56ـ سعة قلبه الشريف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني   ***   هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا

كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ   ***    لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا

يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: وَأَمَّا المَرَّةُ الرَّابِعَةُ: فَقَدْ شُقَّ صَدْرُهُ الـشَّرِيفُ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ، كَمَا وَرَدَ في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ: «بَيْنَمَا أَنَا فِي الحَطِيمِ ـ وَرُبَّمَا قَالَ: فِي الحِجْرِ ـ مُضْطَجِعَاً إِذْ أَتَانِي آتٍ، فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ (يَعْنِي ثَغْرَةَ نَحْرِهِ إلى شِعْرَتِهِ) فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إِيمَانَاً، فَغُسِلَ قَلْبِي، ثُمَّ حُشِيَ (أَيْ: حُشِيَ إِيمَانَاً وَحِكْمَةً) ثُمَّ أُعِيدَ ـ وَفِي رِوَايَةٍ للبُخَارِيِّ: بِطِسْتٍ مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانَاً ـ

ـ وَفِي رِوَايَةٍ للبُخَارِيِّ: «ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانَاً، فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ ـ

«ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ البَغْلِ، وَفَوْقَ الحِمَارِ أَبْيَضَ» الحَدِيثَ.

وَالحِكْمَةُ في هَذَا الشَّقِّ ـ كَمَا أَفَادَهُ العَارِفُونَ ـ هِيَ الزِّيَادَةُ في إِكْرَامِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَإِعْظَامِهِ، وَالزِّيَادَةُ في إِمْدَادِهِ وَإِعْدَادِهِ، للتَّأَهُّبِ للوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى وَمُنَاجَاتِهِ، وَمُشَاهَدَةِ الأَنْوَارِ وَالأَسْرَارِ، وَتَجَلِّيَّاتِ الجَمَالِ وَالجَلَالِ.

قَالَ في المَوَاهِبِ وَشَرْحِهِ: وَرُوِيَ شَقُّ صَدْرِهِ مَرَّةً خَامِسَةً وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً ـ فِيمَا قِيلَ ـ وَلَا تَثْبُتُ، فَلَا تُذْكَرُ إِلَّا مَقْرُونَةً بِبَيَانِ عَدَمِ الثُّبُوتِ. اهـ. انْظُرْ شَرْحَ الزَّرْقَانِيِّ.

وَقَالَ الحَافِظُ القَسْطَلَانِيُّ أَيْضَاً: ثُمَّ إِنَّ جَمِيعَ مَا وَرَدَ مِنْ شَقِّ الصَّدْرِ وَاسْتِخْرَاجِ القَلْبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ الخَارِقَةِ للعَادَةِ: مِمَّا يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ، دُونَ التَّعَرُّضِ لِصَرْفِهِ عَنْ حَقِيقَتِهِ، لِصَلَاحِيَّةِ القُدْرَةِ، فَلَا يَسْتَحِيلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.

قَالَ الشَّارِحُ الزَّرْقَانِيُّ: لِأَنَّ القُدْرَةَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالمُمْكِنِ دُونَ المُسْتَحِيلِ، هَكَذَا قَالَهُ القُرْطُبِيُّ في المُفْهَمُ وَالطَّيِّبِيُّ، وَالتوربشتي، وَالحَافِظُ في الفَتْحِ، وَالسُّيُوطِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَيُؤَيِّدُهُ الحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ أَثَرَ المِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وَقَالَ أَيْضَاً: قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَمَا وَقَعَ مِنْ بَعْضِ جَهَلَةِ العَصْرِ مِنْ إِنْكَارِ ذَلِكَ وَحَمْلِهِ عَلَى الأَمْرِ المَعْنَوِيِّ، وَإِلْزَامِ قَائِلِهِ القَوْلَ بِقَلْبِ الحَقَائِقِ: فَهُوَ جَهْلٌ صُرَاحٌ، وَخَطَأٌ قَبِيحٌ، نَشَأَ مِنْ خُذْلَانِ اللهِ تعالى لَهُمْ، وَعُكُوفِهِمْ عَلَى العُلُومِ الفَلْسَفِيَّةِ، وَبُعْدِهِمْ عَنْ دَقَائِقِ السُّنَّةِ، عَافَانَا اللهُ مِنْ ذَلِكَ. انتهى كَلَامُ السُّيُوطِيُّ. كَمَا فِي شَرْحِ المَوَاهِبِ.

فَمَا أَزْكَى قَلْبَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَبَرَّهُ، وَمَا أَكْرَمَهُ، وَمَا أَعْظَمَهُ! حَقَّاً إِنَّهُ أَعْظَمُ القُلُوبِ وَخَيْرُهَا وَأَزْكَاهَا.

سَعَةُ قَلْبِهِ الشَّرِيفِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَقُوَّتُهُ:

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ﴾. فَفِي هَذِهِ الآيَةِ إِيمَاءٌ إلى تَخْصِيصِ قَلْبِهِ الشَّرِيفِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِنُزُولِ القُرْآنِ عَلَيْهِ دُونَ سَائِرِ القُلُوبِ، وَذَلِكَ لِكَمَالِ اتِّسَاعِهِ الذي مَنَحَهُ اللهُ تعالى إِيَّاهُ وَقُوَّةِ تَحَمُّلِهِ لِتَنَزُّلَاتِ القُرْآنِ العَظِيمِ، الذي لَو أُنْزِلَ عَلَى الصُّمِّ الرَّاسِيَاتِ وَالجِبَالِ الشَّامِخَاتِ، لَتَصَدَّعَتْ وَتَشَقَّقَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ تعالى، قَالَ تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعَاً مُتَصَدِّعَاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾. الآيَةَ.

وَإِنَّ قَلْبَاً نَزَلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ الكَرِيمُ بِأَسْرَارِهِ وَأَنْوَارِهِ، وَحُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ، وَرُوحِهِ وَحَقَائِقِهِ، حَقَّاً إِنَّ هَذَا القَلْبَ أَوْسَعُ القُلُوبِ وَأَقْوَاهَا!

قَالَ تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحَاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورَاً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.

فَأَفَاضَ مِنْ بَحْرِ أَسْرَارِ قَلْبِهِ الشَّرِيفِ، عَلَى قُلُوبِ أَتْبَاعِهِ، وَأَشَعَّ في مَرَايَا قُلُوبِهِمْ مِنْ مَشَارِقِ أَنْوَارِهِ، وَمَنْ تَدَبَّرَ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورَاً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾. فَهِمَ المَعْنَى.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قَلْبُهُ الشَّرِيفُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَتْقَى القُلُوبِ:

جَاءَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في الحَدِيثِ القُدْسِيِّ: «يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئَاً». الحَدِيثَ.

فَهَذَا القَلْبُ الذي هُوَ أَتْقَى القُلُوبِ المُشَارِ إِلَيْهِ في الحَدِيثِ، هُوَ قَلْبُ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي قَالَ: «أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ للهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ». الحَدِيثُ في الصَّحِيحَيْنِ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 10/ذو القعدة /1439هـ، الموافق: 23/ تموز / 2018م