17ـ بر الوالدين : ليكون أبناؤك بررة بك

 

بر الوالدين

17ـ ليكون أبناؤك بررة بك

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ كَانَ حَرِيصَاً عَلَى بِرِّ أَوْلَادِهِ لَهُ، عَلَيْهِ أَنْ يُعِينَ أَبْنَاءَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْ أَهَمِّ الأُمُورِ التي تُعِينُ الوَلَدَ عَلَى بِرِّ وَالِدَيْهِ اخْتِيَارُ أُمِّ الوَلَدِ.

اخْتِيَارُ الزَّوْجَةِ الصَّالِحَةِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ كَانَ حَرِيصَاً عَلَى بِرِّ أَوْلَادِهِ لَهُ في المُسْتَقْبَلِ، عَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ المَرْأَةَ الصَّالِحَةَ دِينَاً وَاسْتِقَامَةً، وَالتي تَكُونُ بَارَّةً بِوَالِدَيْهَا، وَأَنْ تَكُونَ مِنْ بَيْتٍ مَعْرُوفٍ بِالبِرِّ وَالإِحْسَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ العِرْقَ يَنْزَعُ.

روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تُنْكَحُ المَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ». وَالنُّصُوصُ في هَذَا مُتَعَدِّدَةٌ:

وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَاتَ الدِّينَ حَرِيصَةٌ عَلَى دِينِهَا وَعَلَى دِينِ أَبْنَائِهَا، وَعَلَى تَرْبِيَتِهِمُ التَّرْبِيَةَ الصَّحِيحَةَ السَّلِيمَةَ، كَمَا أَنَّهَا حَرِيصَةٌ عَلَى زَوْجِهَا وَسَعَادَتِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ تَجْعَلَ أَبْنَاءَهَا في غَايَةِ البِرِّ وَالإِحْسَانِ وَالتَّقْدِيرِ وَالاحْتِرَامِ لِأَبِيهِمْ، لِشُعُورِهَا بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ دِينِهَا.

أَمَّا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا لَا تَأْبَهُ بِتَرْبِيَةِ أَبْنَائِهَا، وَلَا بِحُسْنِ عَلَاقَتِهِمْ مَعَ وَالِدِهِمْ وَبِرِّهِمْ بِهِ، كَمَا أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مِنْ بِيئَةٍ لَا تَعْرِفُ البِرَّ بِالوَالِدَيْنِ، فَإِنَّ أَوْلَادَهَا يَنْزَعُونَ إلى صِفَاتِ أَهْلِهَا.

روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامَاً أَسْوَدَ، فَقَالَ: «هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟».

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: «مَا أَلْوَانُهَا».

قَالَ: حُمْرٌ.

قَالَ: «هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟».

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: «فَأَنَّى كَانَ ذَلِكَ؟».

قَالَ: أُرَاهُ عِرْقٌ نَزَعَهُ.

قَالَ: «فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ».

إِذَا كَانَ الوَلَدُ يَنْزِعُ بِلَوْنِهِ وَشَكْلِهِ إلى لَوْنِ أَجْدَادِهِ وَأَشْكَالِهِمْ أَلَا يَنْزِعُ إلى أَخْلَاقِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ؟ وَهَذَا مَا نُلَاحِظُهُ مِنْ وُجُودِ التَّشَابُهِ بَيْنَ الوَلَدِ وَأَخْوَالِهِ وَأَجْدَادِهِ وَأَعْمَامِهِ.

قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدِّيلِيِّ ـ وَيُقَالُ: الدُّؤَلِيُّ ـ لِبَنِيهِ: أَحْسَنْتُ إِلَيْكُمْ كِبَارَاً وَصِغَارَاً وَقَبْلَ أَنْ تَكُونُوا.

قَالُوا: أَحْسَنْتَ إِلَيْنَا كِبَارَاً وَصِغَارَاً، كَيْفَ أَحْسَنْتَ إِلَيْنَا قَبْلَ أَنْ نَكُونَ؟

قَالَ: لَمْ أَضَعْكُمْ مَوْضِعَاً تَسْتَحْيُونَ مِنْهُ. رواه البيهقي.

الحِفَاظُ عَلَى البِنَاءِ الأُسَرِيِّ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَخَافُ عَلَى أُمَّتِهِ أَنْ يُخْطِئُوا طَرِيقَ اخْتِيَارِ الزَّوْجَةِ، فَيَبْنُوا زَوَاجَهُمْ عَلَى مَنَافِعَ دُنْيَوِيَّةٍ، وَمَكَاسِبَ مَادِّيَّةٍ، لِأَنَّ رَغْبَةَ الإِنْسَانِ في المَالِ وَالجَاهِ وَالجَمَالِ رَغْبَةٌ فِطْرِيَّةٌ.

لِذَا رَأَيْنَا سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَرْتَفِعُ بِالمُسْلِمِ إلى مُسْتَوَى رَاقٍ مِنْ أَجْلِ مَصْلَحَتِهِ وَمَصْلَحَةِ أَبْنَائِهِ في المُسْتَقْبَلِ، حَتَّى يَكُونُوا بَرَرَةً بِهِ.

روى الطَّبَرَانِيُّ في الأَوْسَطِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِعِزِّهَا لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلَّا ذُلَّاً، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا لِمَالِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلَّا فَقْرَاً، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا لِحَسَبِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلَّا دَنَاءَةً، وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَمْ يَتَزَوَّجْهَا إِلَّا لِيَغُضَّ بَـصَرَهُ أَوْ لِيُحْصِنَ فَرْجَهُ، أَوْ يَصِلَ رَحِمَهُ بَارَكَ اللهُ لَهُ فِيهَا، وَبَارَكَ لَهَا فِيهِ».

كَلِمَاتُ لَهَا أَثَرٌ بَلِيغٌ في ضَمِيرِ الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ الحَرِيصِ عَلَى البِنَاءِ الأُسَرِيِّ، وَالحَرِيصِ عَلَى بِرِّ أَبْنَائِهِ بِهِ، وَالحَرِيصِ عَلَى دَيْمُومَةِ الزَّوَاجِ.

روى ابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَوَّجُوا النِّسَاءَ لِحُسْنِهِنَّ، فَعَسَى حُسْنُهُنَّ أَنْ يُرْدِيَهُنَّ، وَلَا تَزَوَّجُوهُنَّ لِأَمْوَالِهِنَّ، فَعَسَى أَمْوَالُهُنَّ أَنْ تُطْغِيَهُنَّ، وَلَكِنْ تَزَوَّجُوهُنَّ عَلَى الدِّينِ، وَلَأَمَةٌ خَرْمَاءُ سَوْدَاءُ ذَاتُ دِينٍ أَفْضَلُ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: حَقَّاً المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ هَدِيَّةٌ مِنَ اللهِ تعالى، فَالسَّعِيدُ مَنْ فَازَ بِهَا، وَإِذَا فَازَ بِهَا فَازَ بِبِرِّ الوَلَدِ بِإِذْنِ اللهِ تعالى، المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ تُشْبِهُ الأَرْضَ الخَصْبَةَ، لِذَا لَا يَلِيقُ بِالإِنْسَانِ أَنْ يَسْتَهِينَ بِاخْتِيَارِهَا.

فَيَا مَنْ أَرَادَ بِرَّ أَوْلَادِهِ لَهُ، ابْحَثْ عَنِ المَرْأَةِ التي إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ، وَإِذَا أَقْسَمْتَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْكَ، وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ في نَفْسِهَا وَمَالِكَ.

ابْحَثْ عَنِ المَرْأَةِ التي تُحْسِنُ التَّرْبِيَةَ لِأَبْنَائِكَ، فَهِيَ قَنْطَرَةُ سَعَادَةٍ وَشَقَاءٍ، لَكَ وَلِذُرِّيَّتِكَ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ مِنْ أَهَمِّ الأُمُورِ التي تُعِينُ الوَلَدَ عَلَى بِرِّ وَالِدَيْهِ هُوَ اخْتِيَارُ الزَّوْجَةِ الصَّالِحَةِ، وَيَوْمَ يُخْفِقُ الإِنْسَانُ وَيَفْشَلُ في اخْتِيَارِ المَرْأَةِ الصَّالِحَةِ، فَسَوْفَ يَرَى أَبْنَاءَ عَاقِّينَ لَا مَحَالَةَ ـ لَا قَدَّرَ اللهُ تعالى ـ

الأُمُّ مَـدْرَسَـةٌ إِذَا أَعْـدَدْتَهَا   ***   أَعْدَدْتَ شَعْبَاً طَيِّبَ الأَعْرَاقِ

وَالأُمُّ نَبْتٌ إِنْ تَعَاهَدَهُ الحَيَا   ***   بِالرِّيِّ أَوْرَقَ أَيَّمَا إِيـــــــرَاقِ

فَإِذَا كَانَ أَهْلُ فَارِسَ لَا يَتَزَوَّجُونَ إِلَّا للجَمَالِ، وَالرُّومُ لَا يَتَزَوَّجُونَ إِلَّا للنَّسَبِ، وَاليَهُودُ لَا يَتَزَوَّجُونَ إِلَّا للمَالِ؛ فَالمُتَّبِعُ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَزَوَّجُ إِلَّا للدِّينِ وَالاسْتِقَامَةِ.

فَالأُمُّ الصَّالِحَةُ مُرْشِدَةٌ وَمُعَلِّمَةٌ، تُنَشِّئُ الأَبْنَاءَ عَلَى حِفْظِ كِتَابِ اللهِ تعالى، تَجْعَلُهُمْ أَخْيَارَاً، أَبْرَارَاً، سُعَدَاءَ، يَتَشَرَّفُونَ بِحَمْلِ الرِّسَالَةِ.

في الخِتَامِ: تَعَاهَدُوا أَبْنَاءَكُمْ مُنْذُ البِدَايَةِ، وَذَلِكَ بِاخْتِيَارِ الزَّوْجَةِ، فَهِيَ المَحْضِنُ الذي يَتَرَبَّى فِيهِ الأَطْفَالُ.

رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامَاً. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 23/ ذو القعدة /1439هـ، الموافق: 5/ آب / 2018م