57ـ يقظة قلبه الشريف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

 

من كتاب سيدنا محمد رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

57ـ يقظة قلبه الشريف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني   ***   هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا

كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ   ***    لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا

يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: كَمَا وَأَنَّ قَلْبَهُ الشَّرِيفَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْقَى القُلُوبِ وَأَسْلَمُهَا:

فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِي عَنْ أَحَدٍ شَيْئَاً، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ».

وَرَوَى ابْنُ ماجه بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟

قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ».

قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟

قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ، النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ».

كَمَا وَأَنَّ قَلْبَهُ الشَّرِيفَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَليَنُ القُلُوبِ وَأَرَقُّهَا:

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ﴾ الآيَةَ، فَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ غَلِيظَ القَلْبِ، بَلْ كَانَ لَيِّنَاً.

وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي عِنَبَةَ الْخَوْلَانِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ للهِ آنِيَةً مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَآنِيَةُ رَبِّكُمْ قُلُوبُ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَأَحَبُّهَا إِلَيْهِ أَلْيَنُهَا وَأَرَقُّهَا». قَالَ الحَافِظُ الهَيْثَمِيُّ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَقَالَ شَيْخُهُ العِرَاقِيُّ: فِيهِ بَقِيَّةُ بْنُ الوَلِيدَ وَهُوَ مُدَلِّسٌ، لَكِنَّهُ صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ فِيهِ. اهـ. مِنْ فَيْضِ القَدِيرِ للمَنَاوِيِّ.

يَقَظَةُ قَلْبِهِ الشَّرِيفِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ أَعْطَى اللهُ تعالى رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقَظَةَ القَلْبِ، فَهُوَ في تَوَجُّهٍ إلى اللهِ تعالى وَوَعْيٍ عَنْهُ دَائِمَيْنِ، لَا تَعْتَرِيهِ غَفْلَةٌ، وَلَا يَطْرَأُ عَلَى قَلْبِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شَائِبَةُ نَوْمَةٍ، وَلِذَا كَانَتْ رُؤْيَاهُ المَنَامِيَّةُ مِنْ جُمْلَةِ طُرُقِ الوَحْيِ وَأَنْوَاعِهِ، كَمَا أَنَّ نَوْمَهُ لَا يُنْقِضُ وُضُوءَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ.

فَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فِي حَدِيثِ قِيَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ: أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟

فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ، إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي».

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « . . . وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (قِيلَ: المُرَادُ بِالكِتَابِ هُنَا: الكُتُبُ السَّمَاوِيَّةُ السَّابِقَةُ، فَيَكُونُ الحَدِيثُ مَحْمُولَاً عَلَى حَالِ النَّاسِ قَبْلَ بِعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ الجَهَالَةَ عَمَّتْهُمْ فَأَعْمَتْهُمْ، فَمَقَتَهَمُ اللهُ تعالى إِلَّا بَقَايَا قَلِيلَةً مِمَّنْ تَمَسَّكَ بِالكِتَابِ: أَيْ: بِالكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ).

وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابَاً لَا يَغْسِلُهُ المَاءُ (وَالمَعْنَى: أَنَّ المَاءَ لَا يَمْحُوهُ مِنَ الأَرْضِ، فَإِنْ مُحِيَ مِنَ السُّطُورِ فَهُوَ مَحْفُوظٌ في الصُّدُورِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ تعالى هُوَ تَكَفَّلَ بِحِفْظِهِ حَيْثُ قَالَ: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾. فَحَفِظَهُ في مَحَافِظَ وَأَلْوَاحٍ لَا يَمْحُوهَا المَاءُ، أَلَا وَهِيَ صُدُورُ العُلَمَاءِ وَالقُرَّاءِ، قَالَ تعالى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾. الآيَةَ).

تَقْرَؤُهُ نَائِمَاً وَيَقْظَانَ». الحَدِيثَ.

وَرَوَى البُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَتْ مَلاَئِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَائِمٌ ـ وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَاً فَقَالَ: «إِنِّي رَأَيْتُ فِي المَنَامِ كَأَنَّ جِبْرِيلَ عِنْدَ رَأْسِي وَمِيكَائِيلَ عِنْدَ رِجْلَيَّ» ـ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ العَيْنَ نَائِمَةٌ، وَالقَلْبَ يَقْظَانُ.

فَقَالُوا: إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلَاً، قَالَ: فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلَاً.

فَقَالُوا: مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارَاً، وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً (المَأْدُبَةُ: هِيَ الأَطْعِمَةُ التي تُعَدُّ للوَلَائِمِ، وَالمُرَادُ بِالمَأْدُبَةِ هُنَا الجَنَّةُ) وَبَعَثَ دَاعِيَاً، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنَ المَأْدُبَةِ.

وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ المَأْدُبَةِ.

فَقَالُوا: أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهْهَا (أَيْ: يَفْهَمْهَا) فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ العَيْنَ نَائِمَةٌ، وَالقَلْبَ يَقْظَانُ.

فَقَالُوا: فَالدَّارُ الجَنَّةُ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصَـى مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ» الحَدِيثَ. يَعْنِي: مَيَّزَ المُطِيعَ مِنَ العَاصِيَ مِنْهُمْ.

وَفِي سُنَنِ الدَّارَمِيِّ: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ: لِتَنَمْ عَيْنُكَ، وَلْتَسْمَعْ أُذُنُكَ، وَلْيَعْقِلْ قَلْبُكَ.

قَالَ: «فَنَامَتْ عَيْنَايَ، وَسَمِعَتْ أُذُنَايَ، وَعَقَلَ قَلْبِي».

فَقِيلَ لِي: سَيِّدٌ بَنَى دَارَاً، فَصَنَعَ مَأْدُبَةً، وَأَرْسَلَ دَاعِيَاً، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ، دَخَلَ الدَّارَ، وَأَكَلَ مِنَ المَأْدُبَةِ وَرَضِيَ عَنْهُ السَّيِّدُ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ، لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ، وَلَمْ يَطْعَمْ مِنَ المَأْدُبَةِ، وَسَخِطَ عَلَيْهِ السَّيِّدُ».

قَالَ: «فَاللهُ: السَّيِّدُ، وَمُحَمَّدٌ: الدَّاعِي، وَالدَّارُ: الْإِسْلَامُ، وَالمَأْدُبَةُ: الْجَنَّةُ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَقَدْ ذَكَرَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ وَالخَلَفِ طُرُقَ الوَحْيِ وَأَنْوَاعَهُ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا رُؤْيَاهُ المَنَامِيَّةُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ . . . الحَدِيثَ.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الوَحْيِ بِقَوْلِ الخَلِيلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِوَلَدِهِ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ تعالى عَنْهُ: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾. ثُمَّ قِيَامِهِ بِتَنْفِيذِ الرُّؤْيَا.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 17/ذو القعدة /1439هـ، الموافق: 30/ تموز / 2018م