128ـ مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم :حرص الفاروق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ على الآخرين

 

مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

128ـ حرص الفاروق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ على الآخرين

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كُلُّنَا أَنْعَمَ عَلَيْنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِنِعْمَةِ الإِسْلَامِ وَالإِيمَانِ، فَهَلْ ظَهَرَتْ آثَارُ هَذِهِ النِّعْمَةِ عَلَيْنَا؟ هَلْ حَوَّلَتْنَا هَذِهِ النِعْمَةُ مِنَ الشَّقَاء إلى السَّعَادَةِ، وَمِنَ الضَّلَالِ إلى الهُدَى، وَمِنَ الجَهْلِ إلى المَعْرِفَةِ، وَمِنَ الذُّلِّ إلى العِزَّةِ، وَمِنَ الضَّيَاعِ إلى الهُدَى؟

هَلْ نَقَلْنَا هَذِهِ النِّعْمَةَ لِغَيْرِنَا، فَكَانَ لَنَا الأَثَرُ الذي سَيَبْقَى لَنَا بَعْدَ مَوْتِنَا؟

هَذَا سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وُلِدَ مِنْ جَدِيدٍ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، فَإِذَا بِهِ صَارَ فَقِيهَاً حَازِمَاً وَمُضَحِّيَاً، فَأَوَّلُ كَلِمَةٍ قَالَهَا بَعْدَ الإِسْلَامِ:( يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ إِنْ مُتْنَا وَإِنْ حَيِينَا؟

قَالَ: «بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّكُمْ عَلَى الْحَقِّ إِنْ مُتُّمْ وَإِنْ حَيِيتُمْ».

قَالَ: فَقُلْتُ: فَفِيمَ الِاخْتِفَاءُ؟). كَذَا في الرَّحِيقِ المَخْتُومِ.

لَمْ يَقُلْ: أَلَسْتُمْ عَلَى الحَقِّ؟ لِأَنَّهُ صَارَ فِيهِمْ وَمِنْهُمْ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ مَعَهُمْ في مَصْلَحَةِ هَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ.

أَعْلَنَ إِسْلَامَهُ في كُلِّ مَكَانٍ كَانَ يُحَارِبُ فِيهِ الإِسْلَامَ، أَعْلَنَ إِسْلَامَهُ أَمَامَ كُلِّ رَجُلٍ كَانَ يُحَارِبُ الإِسْلَامَ مَعَهُ، فَهَذَا سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَذْهَبُ إلى المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَيَبْحَثُ عَنْ أَبِي جَهْلٍ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَذَهَبَ إلى بَيْتِهِ وَطَرَقَ عَلَيْهِ البَابَ، يَقُولُ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَخَرَجَ إلَيَّ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: مَرْحَبَاً وَأَهْلَاً بِابْنِ أُخْتِي، مَا جَاءَ بِكَ؟

قَالَ: جِئْتُ لِأُخْبِرَك أَنِّي قَدْ آمَنْتُ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، وَصَدَّقْتُ بِمَا جَاءَ بِهِ.

قَالَ: فَضَرَبَ الْبَابَ فِي وَجْهِي، وَقَالَ: قَبَّحَكَ اللهُ، وَقَبَّحَ مَا جِئْتَ بِهِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَ إِسْلَامُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَهُ أَثَرٌ كَبِيرٌ، يَقُولُ سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَطُوفَ بِالبَيْتِ وَنُصَلِّي حَتَّى أَسْلَمَ عُمَرُ، فَلَمَّا أَسْلَمَ قَاتَلهُمْ حَتَّى تَرَكُونَا، فَصَلَّيْنَا وَطُفْنَا.

وَقَالَ أَيْضَاً: كَانَ إِسْلامُ عُمَرَ فَتْحَاً، وَكَانَتْ هِجْرَتُهُ نَصْرَاً، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ رَحْمَةً؛ لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُصَلِّيَ وَنَطُوفَ بِالْبَيْتِ، حَتَّى أَسْلَمَ عُمَرُ؛ فَلَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ قَاتَلَهُمْ حَتَّى تَرَكُونَا نُصَلِّي.

وَقَالَ صُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ: لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ ظَهَرَ الإِسْلَامُ وَدُعِيَ عَلَانِيَةً، وَجَلَسْنَا حَوْلَ الْبَيْتِ حِلَقَاً، وَطُفْنَا بِالْبَيْتِ، وَانْتَصَفْنَا مِمَّنْ غَلُظَ عَلَيْنَا، وَرَدَدْنَا عَلَيْهِ بَعْضَ مَا يَأْتِي بِهِ.

وَلَقَدْ صَدَقَ في عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَوْلُ القَائِلِ:

أَعْـنِي بِهِ الفَارُوقَ فَـرَّقَ عُنْوَةً   ***   بِالسَّيْفِ بَيْنَ الكُفْرِ وَالإِيمَانِ

هُوَ أَظْهَرَ الإِسْلَامَ بَعْدَ خَفَائِهِ   ***   وَمَحَا الظَّلَامَ وَبَـاحَ بِـالكِتْمَانِ

حِرْصُ الفَارُوقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى الآخَرِينَ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَرِيصَاً كُلَّ الحِرْصِ عَلَى المُؤْمِنِينَ، وَحَرِيصَاً عَلَى أَنْ لَا يُفْتَنُوا في دِينِهِمْ، لَقَدْ كَانَ في خِدْمَةِ دِينِهِ بِالأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ، وَكَانَ سَنَدَاً وَمُعِينَاً لِمَنْ أَرَادَ الهِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ إلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ.

جَاءَ في الرَّوْضِ الأُنُفِ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: اتَّعَدْتُ لَمَّا أَرَدْنَا الْهِجْرَةَ إلَى المَدِينَةِ، أَنَا وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ التَّنَاضِبَ مِنْ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ، فَوْقَ سَرِفَ- التَّنَاضِبَ هُوَ ضَرْبٌ مِنْ الشّجَرِ تَأْلَفُهُ الْحِرْبَاءُ، وَأَضَاةُ بَنِي غِفَارٍ مَوْضِعٌ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكّةَ -، وَقُلْنَا: أَيُّنَا لَمْ يُصْبِحْ عِنْدَهَا فَقَدْ حُبِسَ فَلْيَمْضِ صَاحِبَاهُ.

قَالَ: فَأَصْبَحْتُ أَنَا وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ عِنْدَ التَّنَاضِبِ، وَحُبِسَ عَنَّا هِشَامٌ وَفُتِنَ فَافْتُتِنَ.

فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ نَزَلْنَا فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءَ وَخَرَجَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ إلَى عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَكَانَ ابْنَ عَمِّهِمَا وَأَخَاهُمَا لِأُمِّهِمَا، حَتَّى قَدِمَا عَلَيْنَا المَدِينَةَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فَكَلَّمَاهُ وَقَالَا: إِنَّ أُمَّكَ قَدْ نَدَرَتْ أَنْ لَا يَمَسَّ رَأْسَهَا مِشْطٌ حَتَّى تَرَاك، وَلَا تَسْتَظِلَّ مِنْ شَمْسٍ حَتَّى تَرَاكَ، فَرَقَّ لَهَا، فَقُلْتُ لَهُ: يَا عَيَّاشُ، إِنَّهُ وَاللهِ إنْ يُرِيدُكَ الْقَوْمُ إِلَّا لِيَفْتِنُوكَ عَنْ دِينِكَ، فَاحْذَرْهُمْ، فَوَاللهِ لَوْ قَدْ آذَى أُمَّكَ الْقَمْلُ لَامْتَشَطَتْ، وَلَوْ قَدِ اشْتَدَّ عَلَيْهَا حَرُّ مَكَّةَ لَاسْتَظَلَّتْ.

قَالَ: فَقَالَ أُبِرُّ قَسَمَ أُمِّي، وَلِي هُنَالِكَ مَالٌ فَآخُذُهُ.

قَالَ: فَقُلْتُ: وَاللهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالَاً، فَلَكَ نِصْفُ مَالِي وَلَا تَذْهَبْ مَعَهُمَا.

قَالَ: فَأَبَى عَلَيَّ إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُمَا؛ فَلَمَّا أَبَى إِلَّا ذَلِكَ، قُلْتُ لَهُ: أَمَّا إذْ قَدْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ، فَخُذْ نَاقَتِي هَذِهِ، فَإِنَّهَا نَاقَةٌ نَجِيبَةٌ ذَلُولٌ (سَهْلَةُ الرُّكُوبِ وَالانْقِيَادِ) فَالْزَمْ ظَهْرَهَا، فَإِنْ رَابَكَ مِنَ الْقَوْمِ رَيْبٌ فَانْجُ عَلَيْهَا.

فَخَرَجَ عَلَيْهَا مَعَهُمَا، حَتَّى إذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: يَا ابْنَ أَخِي، وَاللهِ لَقَدِ اسْتَغْلَظْتُ بَعِيرِي هَذَا، أَفَلَا تُعْقِبُنِي عَلَى نَاقَتِكَ هَذِهِ؟ (تَجْعَلُنِي أَعْقِبُكَ عَلَيْهَا لِرُكُوبِهَا).

قَالَ: بَلَى.

قَالَ: فَأَنَاخَ وَأَنَاخَا لِيَتَحَوَّلَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا اسْتَوَوْا بِالأَرْضِ عَدَوْا عَلَيْهِ فَأَوْثَقَاهُ وَرَبَطَاهُ ثُمَّ دَخَلَا بِهِ مَكَّةَ، وَفَتَنَاهُ فَافْتُتِنَ.

قَالَ: فَكُنَّا نَقُولُ مَا اللهُ بِقَابِلِ مِمَّنِ افْتُتِنَ صَرْفَاً وَلَا عَدْلَاً وَلَا تَوْبَةً، قَوْمٌ عَرَفُوا اللهَ ثُمَّ رَجَعُوا إلَى الْكُفْرِ لِبَلَاءٍ أَصَابَهُمْ.

قَالَ: وَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ.

فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ المَدِينَةَ، أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ وَفِي قَوْلِنَا وَقَوْلِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعَاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾.

قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَكَتَبْتُهَا بِيَدِي فِي صَحِيفَةٍ وَبَعَثْتُ بِهَا إلَى هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ.

فَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ: فَلَمَّا أَتَتْنِي جَعَلْتُ أَقْرَؤُهَا بِذِي طُوَىً، أُصَعِّدُ بِهَا فِيهِ وَأُصَوِّبُ وَلَا أَفْهَمُهَا، حَتَّى قُلْتُ: اللَّهُمَّ فَهِّمْنِيهَا.

قَالَ: فَأَلْقَى اللهُ تَعَالَى فِي قَلْبِي أَنَّهَا إِنَّمَا أُنْزِلَتْ فِينَا، وَفِيمَا كُنَّا نَقُولُ فِي أَنْفُسِنَا وَيُقَالُ فِينَا.

قَالَ: فَرَجَعْتُ إلَى بَعِيرِي، فَجَلَسْتُ عَلَيْهِ فَلَحِقْت بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالمَدِينَةِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَيُّ سُمُوٍّ عَظِيمٍ عِنْدَ ابْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ! لَقَدْ حَاوَلَ مَعَ أَخِيهِ عَيَّاشٍ، عَرَضَ عَلَيْهِ نِصْفَ مَالِهِ عَلَى أَلَّا يُغَادِرَ المَدِينَةَ، وَأَعْطَاهُ نَاقَتَهُ لِيَفِرَّ عَلَيْهَا، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ، فَلَمْ يَشْمَتْ بِأَخِيهِ، وَلَمْ يَتَشَفَّ مِنْهُ، لِأَنَّهُ خَالَفَهُ، وَرَفَضَ نَصِيحَتَهُ، وَأَلْقَى بِرَأْيِهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ، إِنَّمَا كَانَ شُعُورُ الحُبِّ وَالوَفَاءِ لِأَخِيهِ هُوَ الذي يُسَيْطِرُ عَلَيْهِ، فَمَا أَنْ نَزَلَتِ الآيَةُ حَتَّى سَارَعَ بِبَعْثِهَا إلى أَخَوَيْهِ في مَكَّةَ، وَإلى كُلِّ المُسْتَضْعَفِينَ هُنَاكَ، لِيَقُومُوا بِمُحَاوَلَاتٍ جَدِيدَةٍ للهِجْرَةِ إلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ.

اللَّهُمَّ أَعِزَّنَا بِالإِسْلَامِ، وَأَعِزَّ الإِسْلَامَ بِنَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 21/ ذو القعدة /1439هـ، الموافق: 2/ آب / 2018م