20ـ أول خطبة في المدينة المنورة

 

من كتاب سيدنا محمد رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

20ـ أول خطبة في المدينة المنورة

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني   ***   هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا

كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ   ***    لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا

يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: الحَدِيثُ السَّادِسُ وَالعِشْرُونَ: خُطْبَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في أَوَّلِ جُمُعَةٍ صَلَّاهَا في المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ:

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجُمَحِيِّ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في أَوَّلِ جُمُعَةٍ صَلَّاهَا بِالمَدِينَةِ في بَنِي سَالِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ: وَذَكَرَ هَذِهِ الخُطْبَةَ.

«الحَمْدُ للهِ أَحْمَدُهُ، وَأَسْتَعِينُهُ وَأَسْتَغْفِرُهُ، وَأَسْتَهْدِيهِ، وَأُومِنُ بِهِ وَلَا أَكْفُرُهُ، وَأُعَادِي مَنْ يَكْفُرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ، وَالنُّورِ وَالمَوْعِظَةِ، عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَقِلَّةٍ مِنَ العِلْمِ، وَضَلَالَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَانْقِطَاعٍ مِنَ الزَّمَنِ، ودُنُوٍّ مِنَ السَّاعَةِ، وَقُرْبٍ مِنَ الأَجَلِ، وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدَ رَشَدَ، وَمَنْ  يَعْصِهِمَا فَقَد غَوَى، وَفَرَّطَ وَضَلَّ ضَلَالَاً بَعِيدَاً.

وَأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، فَإِنَّهُ خَيْرُ مَا أَوْصَى بِهِ المُسْلِمُ المُسْلِمَ أَنْ يَحُضَّهُ عَلَى الآخِرَةِ، وَأَنْ يَأْمُرَهُ بِتَقْوَى اللهِ؛ فَاحْذَرُوا مَا حَذَّرَكُمُ اللهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ نَصِيحَةً، وَلَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ذِكْرَى، وَإِنَّهُ تَقْوَى لِمَنْ عَمِلَ بِهِ عَلَى وَجَلٍ وَمَخَافَةٍ، وَعَوْنُ صِدْقٍ عَلَى مَا تَبْتَغُونَ مِنْ أَمْرِ الآخِرَةِ، وَمَنْ يُصْلِحِ الذي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تعالى مِنْ أَمْرِ السِّرِّ وَالعَلَانِيَةِ ـ وَلَا يَنْوِي بِذَلِكَ إِلَّا وَجْهَ اللهِ تعالى ـ يَكُنْ لَهُ ذِكْرَاً في عَاجِلِ أَمْرِهِ، وَذُخْرَاً فِيمَا بَعْدَ المَوْتِ، حِينَ يَفْتَقِرُ المَرْءُ إلى مَا قَدَّمَ، وَمَا كَانَ سِوَى ذَلِكَ يَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيدَاً، وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ، وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالعِبَادِ، والذي صَدَّقَ قَوْلَهُ، وَأَنْجَزَ وَعْدَهُ لَا خُلْفَ لِذَلِكَ! فَإِنَّهُ يَقُولُ تعالى: ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾.

وَاتَّقُوا اللهَ في عَاجِلِ أَمْرِهِ وَآجِلِهِ في السِّرِّ وَالعَلَانِيَةِ، فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرَاً، وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيمَاً.

وَإِنَّ تَقْوَى اللهِ تَقِي مَقْتَهُ، وَتَقِي عُقُوبَتَهُ، وَتَقِي سَخَطَهُ، وَإِنَّ تَقْوَى اللهِ تُبَيِّضُ الوَجْهَ وَتَرْفَعُ الدَّرَجَةَ.

خُذُوا بِحَظِّكُمْ وَلَا تُفَرِّطُوا في جَنْبِ اللهِ، قَدْ عَلَّمَكُمُ اللهُ كِتَابَهُ، وَنَهَجَ بِكُمْ سَبِيلَهُ، لِيَعْلَمَ الذينَ صَدَقُوا وَلِيَعْلَمَ الكَاذِبِينَ؛ فَأَحْسِنُوا كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكُمْ، وَعَادُوا أَعْدَاءَهُ، وَجَاهِدُوا في اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ، هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَسَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا ِبالِله، فَأَكْثِرُوا ذِكْرَ اللهِ، وَاعْمَلُوا لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، فَإِنَّهُ مَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ يَكْفِهِ اللهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ يَـقْضِي عَلَى النَّاسِ، وَلَا يَقْضُونَ عَلَيْهِ، وَيَمْلِكُ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ، اللهُ أَكْبَرُ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ».

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: هَكَذَا أَوْرَدَهَا ابْنُ جَرِيرٍ، وَفِي السَّنَدِ إِرْسَالٌ، وَقَالَ البَيْهَقِيُّ: بَابُ أَوَّلِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ المَدِينَةَ، ثُمَّ أَوْرَدَ ابْنُ كَثِيرٍ إِسْنَادَ البَيْهَقِيِّ إلى أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: كَانَتْ أَوَّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالمَدِينَةِ أَنْ قَامَ فِيهِمْ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ:

«فَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ، تَعْلَمَنَّ وَاللهِ لَيُصْعَقَنَّ أَحَدُكُمْ، ثُمَّ لَيَدَعَنَّ غَنَمَهُ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ رَبُّهُ لَيْسَ لَهُ تَرْجُمَانٌ، وَلَا حَاجِبٌ يَحْجُبُهُ دُونَهُ، أَلَمْ يَأْتِكَ رَسُولِي فَبَلَّغَكَ، وَآتَيْتُكَ مَالَاً، وَأَفْضَلْتُ عَلَيْكَ، فَمَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ فينظر ـ أَيْ: العَبْدُ ـ يَمِينَاً وَشِمَالَاً فَلَا يَرَى شَيْئَاً، ثُمَّ يَنْظُرُ قُدَّامَهُ فَلَا يَرَى غَيْرَ جَهَنَّمَ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَقِيَ وَجْهَهُ مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ فَإِنَّ بِهَا تُجْزَى الْحَسَنَةُ عَشَرَ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَالسَّلَامُ (عَلَيْكُمْ (هَذِهِ الكَلِمَةُ زِيَادَةٌ مِنْ سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ )) وَعَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: ثُمَّ خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مَرَّةً أُخْرَى فَقَالَ: إِنَّ الْحَمْدَ للهِ أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَيَّنَهُ اللهُ فِي قَلْبِهِ وَأَدْخَلَهُ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْكُفْرِ، وَاخْتَارَهُ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنْ أَحَادِيثِ النَّاسِ، إِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَأَبْلَغُهُ، أَحِبُّوا مَنْ أَحَبَّ اللهُ، أَحِبُّوا اللهَ مِنْ كُلِّ قُلُوبِكُمْ، وَلَا تَمَلُّوا كَلَامَ اللهِ وَذِكْرَهُ، وَلَا تَقْسُ عَنْهُ قُلُوبُكُمْ، فَإِنَّهُ مِنْ كُلٍّ يَخْتَارُ اللهُ وَيَصْطَفِي فَقَدْ سَمَّاهُ خِيرَتَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَمُصْطَفَاهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَالصَّالِحِ مِنَ الْحَدِيثِ، وَمِنْ كُلِّ مَا أَتَى النَّاسُ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فاعَبْدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئَاً، وَاتَّقُوهُ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَاصْدُقُوا اللهَ صَالِحَ مَا تَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ، وَتَحَابُّوا بِرُوحِ اللهِ بَيْنَكُمْ، إِنَّ اللهَ يَغْضَبُ أَنْ يُنْكَثَ عَهْدُهُ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وبركاته».

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ مَا أَوْرَدَ ذَلِكَ: وَهَذِهِ الطَّرِيقُ أَيْضَاً مُرْسَلَةٌ، إِلَّا أَنَّهَا مُقَوِّيَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الأَلْفَاظُ. اهـ. انْظُرِ البِدَايَةَ وَالنِّهَايَةَ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 30 /رجب /1439هـ، الموافق: 16/ نيسان / 2018م