97ـ كلمات في مناسبات: أهمية تزكية النفس في حياة طالب العلم الشرعي

 

97ـ كلمات في مناسبات: أهمية تزكية النفس في حياة طالب العلم الشرعي

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ الحَدِيثَ عَنْ حَقَائِقِ التَّصَوُّفِ بَابٌ وَاسِعٌ جِدَّاً، لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُهُ في مُحَاضَرَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحَاضَرَاتٍ عِدَّةٍ.

وَلَكِنِ اخْتَرْتُ مَوْضُوعَاً مِنْهُ يَهُمُّ طَالِبَ العِلْمِ الشَّرْعِيِّ قَبْلَ غَيْرِهِ، أَلَا وَهِيَ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ، فَإِنْ كَانَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ قَالَ في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾. وَقَالَ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾. هَذَا بِشَكْلٍ عَامٍّ، فَطَالِبُ العِلْمِ مُخَاطَبٌ بِذَلِكَ قَبْلَ غَيْرِهِ.

تَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَأَهَمِّيَّتُهَا:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَعْنَى التَّزْكِيَةِ الطَّهَارَةُ؛ وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ تَخْلِيَتُهَا مِنْ كُلِّ كُدُورَاتِ المَعَاصِي وَالمُخَالَفَاتِ، وَتَخْلِيصُهَا مِمَّا لَا يَرْتَضِيهِ الشَّرْعُ الشَّرِيفُ مِنَ الكِبْرِ وَالعُجْبِ، ثُمَّ تَحْلِيَتُهَا بِصِفَاتِ الكَمَالِ كَالتَّوَاضُعِ وَالصِّدْقِ وَاﻹخْلَاصِ وَالمُرَاقَبَةِ.

تَزْكِيَةُ النَّفْسِ أَنْ يَعْلَمَ العَبْدُ بِأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ، وَأَنَّهُ تَحْتَ مُرَاقَبَتِهِ، وَأَنَّهُ يَعْلَمُ الـسِّرَّ وَأَخْفَى، وَأَنَّهُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ.

النَّفْسُ الأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ أَكْبَرُ قَاطِعٍ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْ تَمَامِ فَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا، أَنْ أَرْسَلَ إِلَيْنَا حَضْرَةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونَ المُرْشِدَ الأَوَّلَ، وَالمُزَكِّيَ الأَعْظَمَ للبَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ، كَمَا قَالَ تعالى عَنْهُ: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولَاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: فَلَاحُنَا في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ بِتَزْكِيَةِ نُفُوسِنَا، وَتَطْهِيرِ قُلُوبِنَا مِنْ كُلِّ خُلُقٍ سَافِلٍ وَذَمِيمٍ، فَالسَّعِيدُ المُوَفَّقُ مَنِ اهْتَمَّ بِصَلَاحِ وَنَقَاءِ قَلْبِهِ، فَنَقَّاهُ مِنْ مُرَاءَاةِ الخَلْقِ، وَزَكَّى نَفْسَهُ مِنَ العُجْبِ وَالتَّعَاظُمِ وَالتَّكَبُّرِ عَلَى النَّاسِ، وِمِنَ الغِشِّ وَالغِلِّ وَالحِقْدِ وَالحَسَدِ وَالبَغْضَاءِ، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا إِلَّا بِتَوْفِيقٍ مِنَ اللهِ تعالى وَإِعَانَةٍ مِنْهُ جَلَّ وَعَلَا ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدَاً وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَد كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَـتَضَرَّعُ إلى رَبِّهِ في طَلَبِ التَّقْوَى وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ ـ مَعَ أَنَّ نَفْسَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُزَكَّاةٌ، بَلْ إِنَّ جمِيعَ جَوَارِحِهِ مُزَكَّاةٌ ـ وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا» رواه الإمام مسلم عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

أَنْتُمْ مَصَابِيحُ الهُدَى:

سَادَتِي الأَفَاضِلَ مِنْ مُدَرِّسِينَ وَطُلَّابٍ، أَنْتُمْ مَصَابِيحُ الهُدَى، وَأَنْتُمْ حَمَلَةُ رِسَالَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَاجْمَعُوا بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ الحُسْنَيَيْنِ، اجْمَعُوا بَيْنَ العِلْمِ وَالعَمَلِ قَبْلَ تَعْلِيمِ الآخَرِينَ، لِأَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ إلى أَفْعَالِكُمْ بَعْدَ سَمَاعِ أَقْوَالِكُمْ، فَلَا يَلِيقُ بِطَالِبِ العِلْمِ فَضْلَاً عَنِ العَالِمِ أَنْ يَكُونَ مُتَنَاقِضَاً في أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

يَـا أَيُّـهَـا الـــرَّجُلُ المُعَلِّمُ غَــــــــيْرَهُ   ***   هَلَّا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا الـتَّعْلِيمُ

تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ وَذِي الـضَّنَا   ***   كَـيْـمَا يَـصِحَّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ

ابْـدَأْ بِـنَـفْـسِـكَ فَـانْـهَـهَـا عَـنْ غَـيِّهَا   ***   فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ

فَـهُـنَـاكَ تُـعْـذَرُ إِنْ وَعَـظْـتَ وَيُقْتَدَى   ***   بِالْقَوْلِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ الـتَّعْلِيمُ

لَا تَـنْـهَ عَـنْ خُـلُـقٍ وَتَـأْتِيَ مِـثْـلَـــــهُ   ***   عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ

سَادَتِي الأَفَاضِلَ مِنْ عُلَمَاءَ مُدَرِّسِينَ وَطُلَّابِ عِلْمٍ، سَامِحُونِي عَلَى هَذِهِ الجُرْأَةِ عِنْدَمَا أَقُولُ هَذَا القَوْلَ أَمَامَكُمْ، سَامِحُونِي إِنْ قُلْتُ: اجْمَعُوا بَيْنَ العِلْمِ وَالعَمَلِ قَبْلَ تَعْلِيمِ الآخَرِينَ، وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْهُدَى، وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضَاً، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ، قَبِلَتِ المَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا، وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسَاً، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» رواه الشيخان عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَيَا مَصَابِيحَ الهُدَى، أَنْتُمْ في نَظَرِ النَّاسِ القُدْوَةُ إِنْ شِئْتُمْ وَإِنْ أَبَيْتُمْ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونُوا قُدْوَةً حَسَنَةً يُطَابِقُ عِلْمُهَا عَمَلَهَا، فَتَكُونُونَ حَقَّاً مَصَابِيحَ هُدَى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ العِلْمُ حُجَّةً عَلَى صَاحِبِهِ ـ لَا قَدَّرَ اللهُ ـ فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾. وَقَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتَاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾. وَبِذَلِكَ يُعْطِي الذَّرِيعَةَ للمُقَصِّرِينَ فَيَقُولُونَ فُلَانٌ العَالِمُ يَفْعَلُ هَكَذَا، وَيُبَرِّرُونَ تَقْصِيرَهُمْ وَتَجَاوُزَهُمْ بِذَلِكَ.

فَيَا مَصَابِيحَ الهُدَى، أَعْطُوا الصُّورَةَ الصَّحِيحَةَ عَنْ عِلْمِكُمْ مِنْ خِلَالِ عَمَلِكُمْ، وَأَنْتُمْ تَـسْتَحْضِرُونَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرَاً﴾.

وَقَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ رَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ عَلَى ثَغْرَةٍ مِنْ ثُغَرِ الْإِسْلَامِ، اللهَ اللهَ لَا يُؤْتَى الْإِسْلَامُ مِنْ قِبَلِكَ» رواه المروزي عَنْ يَزِيدَ بْنِ مَرْثَدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

أَلَمْ تَكُونُوا ضُلَّالَاً، فَهَدَاكُمُ اللهُ؟

سَادَتِي الأَفَاضِلَ مِنْ عُلَمَاءَ مُدَرِّسِينَ وَطُلَّابِ عِلْمٍ، غَيِّبُوا أَنْفُسَكُمْ وَاهْضِمُوهَا عِنْدَ تَوْجِيهِكُمْ للآخَرِينَ، إِذَا كَانَ هَمُّكُمُ الآخِرَةَ، وَإِذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَكُونُوا هَادِينَ مَهْدِيِّينَ، وَإِذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مُؤَثِّرِينَ، وَانْظُرُوا إلى القُدْوَةِ العُظْمَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

روى الإمام أحمد في مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: اجْتَمَعَ أُنَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالُوا: آثَرَ عَلَيْنَا غَيْرَنَا ـ وَذَلِكَ لَمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ ـ.

فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَجَمَعَهُمْ، ثُمَّ خَطَبَهُمْ، فَقَالَ: «يَا مَـعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَلَمْ تَكُونُوا أَذِلَّةً فَأَعَزَّكُمُ اللهُ؟».

قَالُوا: صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ،.

قَالَ: «أَلَمْ تَكُونُوا ضُلَّالَاً، فَهَدَاكُمُ اللهُ؟».

قَالُوا: صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ.

قَالَ: «أَلَمْ تَكُونُوا فُقَرَاءَ، فَأَغْنَاكُمُ اللهُ؟».

قَالُوا: صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ.

ثُمَّ قَالَ: «أَلَا تُجِيبُونَنِي؟ أَلَا تَقُولُونَ: أَتَيْتَنَا طَرِيدَاً فَآوَيْنَاكَ، وَأَتَيْتَنَا خَائِفَاً فَآمَنَّاكَ، أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالْبُقْرَانِ ـ يَعْنِي الْبَقَرَ ـ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللهِ، فَتُدْخِلُونَهُ بُيُوتَكُمْ، لَوْ أَنَّ النَّاسَ سَلَكُوا وَادِيَاً أَوْ شُعْبَةً، وَسَلَكْتُمْ وَادِيَاً أَوْ شُعْبَةً لَسَلَكْتُ وَادِيَكُمْ أَوْ شُعْبَتَكُمْ، لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَإِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا، حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ».

مَا هَذِهِ العَظَمَةُ؟ مَا هَذِهِ الرُّجُولَةُ؟ مَا هَذَا الكَمَالُ؟ مَا هَذِهِ التَّزْكِيَةُ؟ مَا هَذِهِ الرِّفْعَةُ؟

هَلْ نَسَبَ شَيْئَاً إلى ذَاتِهِ الشَّرِيفَةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ هَلْ نَـسِيَ فَضْلَ الأَنْصَارِ عَلَيْهِ؟ وَهُوَ صَاحِبُ الفَضْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى المَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا عُلْوِيِّهَا وَسُفْلِيِّهَا ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾.

سَادَتِي الأَفَاضِلَ، أَيْنَ نَحْنُ مِنْ هَذَا؟ أَيْنَ حَيَاةُ قُلُوبِنَا؟ أَيْنَ تَزْكِيَةُ نُفُوسِنَا؟ أَيْنَ اسْتِقَامَةُ أَعْمَالِنَا؟ أَيْنَ صَلَاحُ أَحْوَالِنَا؟ أَيْنَ تَأَسِّينَا بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

نَحْنُ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى تَزْكِيَةِ نُفُوسِنَا، بَلْ هِيَ أَوْلَى مِنَ العِلْمِ، تَدَبَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولَاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾. التَّزْكِيَةُ في المَنْهَجِ الرَّبَّانِيِّ هِيَ أَوْلَى مِنَ العِلْمِ، فَالعِلْمُ إِذَا لَمْ يُثْمِرْ طَهَارَةَ القَلْبِ، وَتَزْكِيَةَ النَّفْسِ، فَلَيْسَ بِعِلْمٍ نَافِعٍ، وَدَقِّقُوا في قَوْلِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾. عِلْمٌ بِلَا عَمَلٍ جُنُونٌ، وَعَمَلٌ بِلَا عِلْمٍ لَا يَكُونُ.

اتَّقِ اللهَ يَا عُمَرُ:

أَيُّهَا السَّادَةُ الأَفَاضِلُ: مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ وَطَهَّرَهَا مِنَ العُجْبِ وَالغُرُورِ بِبَرَكَةِ العِلْمِ النَّافِعِ، وَبِاسْتِحْضَارِ سِيرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، صَارَ مُسْتَعِدَّاً لِسَمَاعِ كَلِمَةِ: اتَّقِ اللهَ؛ وَإِلَّا كَانَ عِلْمُهُ حِجَابَاً بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تعالى، وَسَبَبَاً في ضَلَالِهِ وَانْحِرَافِهِ عَنْ جَادَّةِ الصَّوَابِ، قَالَ تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلَاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ﴾.

سَادَتِي الأَفَاضِلَ، مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ يَعْشَقُ النَّاصِحَ وَلَا يَلْتَفِتُ للمَادِحِ، مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ يَعْشَقُ مَنْ يُذَكِّرُهُ بِاللهِ تعالى، وَبِكَلِمَةِ: اتَّقِ اللهِ؛ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ حَالُهُ هَذَا، وَاللهُ تعالى يَقُولُ لِسَيِّدِ المُتَّقِينَ، وَلِسَيِّدِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ﴾؟

وَلَقَدْ رَبَّى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ عَلَى هَذَا، لَقَدْ زَكَّى نُفُوسَهُمْ حَتَّى عَشِقُوا النُّصَّاحَ.

هَذَا سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كَمَا جَاءَ في الاسْتِيعَابِ للحَافِظِ ابْنِ عَبْدِ البَرِّ وَفي الإِصَابَةِ للحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ: مَرَّ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَيَّامَ خِلَافَتِهِ عَلَى السَّيِّدَةِ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَالنَّاسُ مَعَهُ عَلَى حِمَارٍ، فَاسْتَوَقَفَتْهُ طَوِيلَاً وَوَعَظَتْهُ وَقَالَتْ: هِيهَاً يَا عُمَرُ، عَهِدْتُكَ وَأَنْتَ تُسَمَّى عُمَيْرَاً في سُوقِ عُكَاظٍ تُرَوِّعُ الصِّبْيَانَ بِعَصَاكَ، فَلَمْ تَذْهَبِ الأَيَّامُ حَتَّى سُمِّيتَ عُمَرَ، ثُمَّ لَمْ تَذْهَبِ الأَيَّامُ حَتَّى سُمِّيتَ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ! فَاتَّقِ اللهَ في الرَّعِيَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَنْ خَافَ الوَعِيدَ قَرُبَ عَلَيْهِ البَعِيدُ، وَمَنْ خَافَ المَوْتَ خَـشِيَ الفَوْتَ؛ وَهُوَ وَاقِفٌ يَسْمَعُ كَلَامَهَا.

فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، حَبَسْتَ النَّاسَ عَلَى هَذِهِ العَجُوزِ؟

فَقَالَ: وَيْلَكَ! تَدْرِي مَنْ هِيَ؟ هَذِهِ امْرَأَةٌ سَمِعَ اللهُ شَكْوَاهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، هَذِهِ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ التي أَنْزَلَ اللهُ فِيهَا: ﴿قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ﴾. فَعُمَرُ وَاللهِ أَحَقُّ أَنْ يَسْمَعَ لَهَا؛ وَاللِه لَوْ أَنَّهَا وَقَفَتْ إلى اللَّيْلِ مَا فَارَقْتُهَا إِلَّا للصَّلَاةِ ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَيْهَا.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمْ نَحْنُ اليَوْمَ بِحَاجَةٍ إلى تَزْكِيَةِ نُفُوسِنَا وَتَطْهِيرِهَا مِنَ العُجْبِ وَالغُرُورِ وَالاسْتِعْلَاءِ عَلَى الآخَرِينَ؟ كَمْ نَحْنُ اليَوْمَ بِحَاجَةٍ إلى صُحْبَةِ المُرْشِدِينَ المُرَبِّينَ الذينَ جَمَعُوا بَيْنَ العِلْمِ وَالعَمَلِ وَتَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ، حَتَّى يَسْرِيَ حَالُهُمْ إِلَيْنَا.

كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إلى أَنْ نَسْمُو بِأَنْفُسِنَا لَعَلَّ اللهَ تعالى أَنْ يُكْرِمَنَا بِأَنْ نَكُونَ مِنْ خَيْرِ الجُلَسَاءِ للآخَرِينَ؟ هَلْ تَذْكُرُونَ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا سُئِلَ: أَيُّ جُلَسَائِنَا خَيْرٌ؟

قَالَ: «مَنْ ذَكَّرَكُمُ اللهَ رُؤْيَتُهُ، وَزَادَ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ، وَذَكَّرَكُمْ بِالْآخِرَةِ عَمَلُهُ»؟ رواه أبو يعلى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إلى نَاصِحٍ أَمِينٍ حَرِيصٍ عَلَى سَلَامَةِ آخِرَتِنَا؟

روى ابْنُ المُبَارَكِ عَنْ سُلَيْمِ بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ: نَظَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمَعَهُ نَاسٌ، فَعَلَاهُ بِالدِّرَّةِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، مَا تَصْنَعُ؟

قَالَ: إِنَّهَا فِتْنَةٌ لِلْمَتْبُوعِ، وَمَذَلَّةٌ لِلتَّابِعِ.

جَزَى اللهُ عَنَّا سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ مَا جَزَى نَبِيَّاً عَنْ أُمَّتِهِ، وَجَزَى اللهُ عَنَّا مَشَايِخَنَا خَيْرَ الجَزَاءِ، وَجَزَاكُمْ رَبِّي خَيْرَ الجَزَاءِ وَأَتَمَّهُ وَأَعَمَّهُ وَأَكْمَلَهُ عَلَى سَعَةِ صُدُورِكُمْ وَأَنْتُمْ تَسْتَمِعُونَ إِلَيَّ. وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

**      **    **

الاثنين: 14/ شعبان /1439هـ، الموافق: 30/ نيسان / 2018م