597ـ خطبة الجمعة: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ﴾

 

597ـ خطبة الجمعة: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ﴾

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ البَلَاءَ يُحْتَمَلُ بِعِظَمِ الرَّجَاءِ مِنَ اللهِ تعالى، وَإِنَّ طَرِيقَ الفَرَجِ هُوَ الثِّقَةُ بِاللهِ تعالى، وَهَذَا هُوَ حَالُ المُؤْمِنِ الحَقِّ، فَلَا تُزَلْزِلُهُ المِحَنُ، وَلَا تَهُدُّهُ المَتَاعِبُ، بَلِ المِحَنُ تَزِيدُهُ صَبْرَاً وَأَمَلَاً وَتَفَاؤُلَاً، لِأَنَّ عَقِيدَتَهُ رَاسِخَةٌ، بِأَنَّ كُلَّ أَمْرٍ يَقَعُ هُوَ فِي كِتَابٍ عِنْدَ اللهِ تعالى قَبْلَ وُقُوعِهِ، قَالَ تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾. فَلَا يَعْرِفُ اليَأْسَ وَلَا القُنُوطَ، لِأَنَّهُ لَوْلَا الأَمَلُ لَبَطَلَ العَمَلُ.

﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ﴾:

يَا عِبَادَ اللهِ: قُولُوا لِأَصْحَابِ المَصَائِبِ وَالمِحَنِ: تَعَلَّمُوا دَرْسَاً عَمَلِيَّاً مِنْ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، الذي رَغْمَ كُلِّ الظُّرُوفِ الصَّعْبَةِ وَالقَاسِيَةِ لَمْ يَعْرِفِ اليَأْسَ، وَلَمْ يَفْقِدِ الأَمَلَ، وَكَذَلِكَ وَالِدُهُ سَيِّدُنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَعْرِفِ اليَأْسَ، وَلَمْ يَفْقِدِ الأَمَلَ، فَعِنْدَمَا فَقَدَ وَلَدَهُ سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوَّلَاً، ثُمَّ فَقَدَ أَخَاهُ ثَانِيَاً، قَالَ: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعَاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾. وَقَالَ: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ قِصَّةَ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هِيَ في الحَقِيقَةِ قِصَّةُ نَجَاحٍ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، قِصَّةُ عِزٍّ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، قِصَّةُ كَرَامَةٍ وَمَكَانَةٍ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ الثِّقَةِ بِتَدْبِيرِ اللهِ تعالى.

لَا تُـدبِّـرْ لَـكَ أَمْـــرَاً   ***   فَأُولُوا التَّدْبِيرِ هَلْكَى

وَارْضَ عَنَّا إِنْ حَكَمْنَا   ***   نَـحْنُ أَوْلَى بِكَ مِنكَ

يَا عِبَادَ اللهِ: قِصَّةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تُعْطِي دُرُوسَاً عَمَلِيَّةً في الصَّبْرِ وَالمُصَابَرَةِ لِأَصْحَابِ الابْتِلَاءَاتِ، لِمَنْ جَرَتِ الأُمُورُ عَلَى خِلَافِ مَا يُرِيدُونَ، وَهَا هُوَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُخَاطِبُ الجَمِيعَ إلى قِيَامِ السَّاعَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ﴾.

وَكَأَنَّهُ يَقُولُ لِأَصْحَابِ الابْتِلَاءَاتِ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى وَالصَّلَاحِ: ثِقُوا بِتَدْبِيرِ اللهِ تعالى، وَاصْبِرُوا، وَلا تَيْأَسُوا، وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئَاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئَاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: خُذُوا بِالأَسْبَابِ، وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ تعالى، وَكُونُوا رَاضِينَ بِقَضَاءِ اللهِ تعالى، لِأَنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ أَيْنَ يَكْمُنُ الخَيْرُ لَكُمْ، في العَطَاءِ أَمْ في المَنْعِ وَالأَخْذِ؟

هَذَا سَيِّدُنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَحَبَّهُ أَبُوهُ حُبَّاً شَدِيدَاً، وَهُوَ شَرَفٌ عَظِيمٌ لَهُ، فَمَاذَا كَانَتِ النَّتِيجَةُ؟ النَّتِيجَةُ أَنَّهُ أُلْقِيَ في الجُبِّ، وَالإِلْقَاءُ في الجُبِّ شَيْءٌ مُنْكَرٌ وَمَكْرُوهٌ وَفَظِيعٌ، وَالكُلُّ يَتَأَلَّمُ عِنْدَمَا يَسْمَعُ: ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضَاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمَاً صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾.

وَلَكِنْ مَا هِيَ النَّتِيجَةُ؟ النَّتِيجَةُ أَنْ يُكَرَّمَ في بَيْتِ عَزِيزِ مِـصْرَ، النَّتِيجَةُ ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِـصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدَاً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: الدُّنْيَا مِنَحٌ وَمِحَنٌ، فَطُوبَى لِمَنْ فَهِمَ عَنِ اللهِ تعالى؛ إِنَّ الإِكْرَامَ لِسَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في قَصْرِ العَزِيزِ لَشَيَءٌ رَائِعٌ، وَلَكِنْ مَا هِيَ النَّتِيجَةُ؟ النَّتِيجَةُ دُخُولُ السِّجْنِ ظُلْمَاً وَعُدْوَانَاً، كَمْ هِيَ قَاسِيَةٌ هَذِهِ النَّتِيجَةُ؟ ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ دُخُولَ السِّجْنِ ظُلْمَاً وَعُدْوَانَاً شَيْءٌ عَظِيمٌ وَلَا يُطَاقُ في ظَاهِرِ الأَمْرِ، وَلَكِنْ مَا هِيَ نَتِيجَةُ دُخُولِهِ السِّجْنَ؟ النَّتِيجَةُ أَنْ يُصْبِحَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَزِيزَ مِـصْرَ، النَّتِيجَةُ: ﴿قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: قِصَّةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُلْوَانٌ لِكُلِّ مَظْلُومٍ، وَكَأَنَّهَا تَقُولُ لِكُلِّ مَظْلُومٍ وَمَقْهُورٍ: إِذَا تَوَلَّى اللهُ تعالى أَمْرَكَ، هَيَّأَ لَكَ جَمِيعَ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ مِنْ خِلَالِ مَا يَعْلَمُ هُوَ لَا مِنْ خِلَالِ مَا تَعْلَمُ، هَيَّأَ لَكَ جَمِيعَ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ بِمَا يَرَاهُ لَا بِمَا تَرَاهُ، فَقُلْ: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾. وَإِذَا فَوَّضْتَ أَمْرَكَ إلى اللهِ تعالى أَبْشِرْ، لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَنْ فَوَّضَ الأَمْرَ إِلَيْهِ: ﴿فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوَّاً وَعَشِيَّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾.

فَوِّضْ أَمْرَكَ إلى اللهِ تعالى في كُلِّ شَيْءٍ، فَوِّضْ أُمُورَكَ الظَّاهِرَةَ وَالبَاطِنَةَ للهِ تعالى، وَتَأَكَّدْ أَنَّ اللهَ تعالى مَعَكَ مُؤَيِّدٌ وَنَاصِرٌ وَحَافِظٌ وَمُعِينٌ، إِذَا كُنْتَ مُتَحَقِّقَاً بِعُبُودِيَّتِكَ للهِ تعالى، وَتَذَكَّرْ يَا أَيُّهَا المُبْتَلَى، يَا أَيُّهَا المَظْلُومُ، يَا أَيُّهَا المَقْهُورُ، خِتَامَ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَمَا الْتَقَى مَعَ إِخْوَتِهِ الذينَ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا، قَالَ لَهُمْ: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ﴾.

أَرَدْتُمْ قَتْلِي، وَأَرَدْتُمْ إِبْعَادِي عَنْ وَالِدِي وَعَنْ أَخِي، وَأَرَادَ اللهُ أَنْ يُمَكِّنَنِي في الأَرْضِ، فَأَيُّ الإِرَادَتَيْنِ غَالِبَةٌ؟

يَا أَيُّهَا المَظْلُومُ، تَذَكَّرْ عِنْدَمَا يَأْتِي الظَّالِمُ لِيَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ في يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ لِيَقُولَ لَكَ: تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيَّ، وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ الخَاطِئِينَ، تَصَوَّرْ يَا أَيُّهَا المَظْلُومُ الظَّالِمَ وَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْكَ وَيَقُولُ لَكَ: اسْتَغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، إِنِّي كُنْتُ منَ الخَاطِئِينَ، عِزٌّ لَكَ مَا بَعْدَهُ عِزٌّ، وَصَدَقَ الصَّادِقُ الأَمِينُ: «وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلِمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلَّا زَادَهُ اللهُ عِزَّاً» رواه الترمذي عَنْ أَبِي كَبْشَةَ الأَنَّمَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

نَسْأَلُ اللهَ تعالى العَفْوَ وَالعَافِيَةَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**      **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 18/ شعبان /1439هـ، الموافق: 4/ أيار / 2018م