32ـ كمال عقله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

 

من كتاب سيدنا محمد رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

32ـ كمال عقله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني   ***   هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا

كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ   ***    لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا

يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: وَيَتَجَلَّى لَكَ كَمَالُ عَقْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَسَعَةُ فِكْرِهِ، في جَمِيعِ قَضَايَاهُ وَأَعْمَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَحْوَالِهِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ لَكَ أَطْرَافَاً مُوجَزَةً هِيَ قَطْرَةٌ مِنْ بَحْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

أَوَّلَّاً: إِنَّ مُوَاجَهَتَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للعَالَمِ الذي انْتَـشَرَتِ الجَاهِلِيَّةُ الجَهْلَاءُ في جَمِيعِ طَبَقَاتِهِ وَمِلَلِهِ، عَرَبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ، حَتَّى إِنَّهُمْ ضَلَّتْ عُقُولُهُمْ، وَجَهِلُوا دِينَهُمْ، وَصَارُوا يَعْبُدُونَ أَوْثَانَاً وَأَحْجَارَاً نَحَتَتْهَا أَيْدِيهِمْ، وَرُبَّمَا صَنَعَ أَحَدُهُمْ صَنَمَاً صَغِيرَاً مِنْ تَمْرٍ أَوْ عَجْوَةٍ فَعَبَدَهُ مُدَّةً مَدِيدَةً، حَتَّى إِذَا جَاعَ أَكَلَهُ!

فَمُوَاجَهَةُ هَذِهِ العَقْلِيَّةِ الصَّخْرَةِ المُتَحَجِّرَةِ المُنْحَرِفَةِ، وَتَحْوِيلُهَا إلى عَقْلِيَّةٍ لَطِيفَةٍ سَلِيمَةٍ صَائِبَةٍ، لَهُوَ أَمْرٌ كَبِيرٌ يَحْتَاجُ إلى عَقْلٍ رَجِيحٍ، وَفِكْرٍ صَحِيحٍ، وَقُوَّةِ بَيَانٍ، وَفَصَاحَةِ لِسَانٍ، وَبُرْهَانٍ سَاطِعٍ، وَدلَيِلٍ قَاطِعٍ، وَتَحمُّلٍ وَأَنَاةٍ، وَحِلْمٍ وَصَفْحٍ ، وَعِلْمٍ وَاسِعٍ بِمُخْتَلَفِ الحُجَجِ وَأَنْوَاعِ الأَسَالِيبِ.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ كَانَ بِتَعَالِيمِ أَحْكَمِ الحَاكِمِينَ، وَبِوَحْيِ رَبِّ العَالَمِينَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الذي خَطَّ لَهُ طَرِيقَ الدَّعْوَةِ، وَبَيَّنَ لَهُ أَسَالِيبَهَا، وَأَوْضَحَ لَهُ مَنَاهِجَهَا، لِيَسِيرَ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ﴾.

وَلِكَنَّ التَّعَالِيمَ الإِلَهِيَّةَ وَالإِيحَاءَاتِ الرَّبَّانِيَّةَ، لَا بُدَّ لَهَا مِنْ عَقْلٍ كَبِيرٍ، مُـشْرِقٍ مُنِيرٍ، قَدْ أَعَدَّهُ اللهُ تعالى لِحَمْلِهَا، ثُمَّ تَطْبِيقِهَا وَتَنْزِيلِهَا في مَنَازِلِهَا اللَّا ئِقَةِ بِهَا، فَإِنَّ النَّاسَ تَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُهُمْ.

فَمِنْهُمْ: مَنْ إِذَا عُرِضَتْ عَلَيْهِ الحِكْمَةُ سَلَّمَ لَهَا، وَاسْتَسْلَمَ لِأَمْرِهَا.

وَمِنْهُمْ: مَنْ أَخَذَتْ بِنَفْسِهِ الشَّهَوَاتُ المُفْرِطَةُ مَأَخْذَهَا، فَيَحْتَاجُ إلى وَعْظٍ وَتَذْكِيرٍ بِسُوءِ مَا يَعْمَلُ، وَعَوَاقِبِ مَا يَقْتَرِفُ.

وَمِنْهُمْ: مَنْ تَسَلَّطَتْ عَلَى قَلْبِهِ الشُّبُهَاتُ الاعْتِقَادِيَّةُ الفَاسِدَةُ، فَهُوَ يَحْتَاجُ إلى مَا يُزِيلُهَا مِنْ قَلْبِهِ بَالحُجَجِ القَاطِعَةِ، وَالجَدَلِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.

وَلِذَا نَوَّعَ اللهُ تعالى أَسَالِيبَ الدَّعْوَةِ، لِأَنَّ كُلَّ أُسْلُوبٍ لَهُ مَوْقِعُهُ وَأَثَرُهُ وَمَوْضِعُهُ.

وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ يَقِينَاً أَنَّ أَعْقَلَ العُقَلَاءِ هُوَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

ثانياً: إِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ في أَسَالِيبِ حُجَّتِهِ عَلَى عَبَدَةِ الأَوْثَانِ، وَمَنْ نَظَرَ في أَدِلَّتِهِ عَلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَإِلْزَامِهِمُ الحُجَّةَ وَإِفْحَامِهِمْ وَإِلْقَامِهِمْ حَجَرَ الخُذْلَانِ، تَرَاءَتْ لَهُ إِشْعَاعَاتٌ مِنْ عَقْلِيَّتِهِ الكُبْرَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَيْقَنَ أَنَّ عَقْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ العُقُولِ وَأَعْلَاهَا، وَأَوْسَعُهَا وَأَفْضَلُهَا.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: فَهَذَا حُصَيْنٌ وَالِدُ عِمْرَانَ، الذي يَعْبُدُ سَبْعَةَ أَصْنَامٍ في الأَرْضِ، وَيَرَى أَنَّهَا آلِهَةٌ، وَكَانَ مُعَظَّمَاً في قُرَيْشٍ، فَجَاؤُوا إِلَيْهِ وَقَالُوا لَهُ: كَلِّمْ لَنَا هَذَا الرَّجُلَ ـ أَيْ: مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ فَإِنَّهُ يَذْكُرُ آلِهَتَنَا وَيَسُبُّهُمُ، وَجَاءُوا مَعَهُ حَتَّى جَلَسُوا قَرِيبَاً مِنْ بَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَوْسِعُوا للشَّيْخِ» (أَيْ: كَبِيرَ السِّنِّ وَهُوَ حُصَيْنٌ).

فَقَالَ حُصَيْنٌ: مَا هَذَا الذي بَلَغَنَا عَنْكَ، أَنَّكَ تَشْتُمُ آلِهَتَنَا وَتَذْكُرُهُم؟

فَقَالَ: «يَا حُصَيْنُ، كَمْ تَعْبُدُ من إِلَهٍ؟».

قَالَ: سَبْعَاً في الأَرْضِ، وَوَاحِدَاً في السَّمَاءِ.

قَالَ: «فَإِذَا أَصَابَكَ الضُّرُّ مَن تَدْعُو؟».

قَالَ: الذي في السَّمَاءِ.

قَالَ: «فَإِذَا هَلَكَ المَالُ مَن تَدْعُو؟».

قَالَ: الذي في السَّمَاءِ.

قَالَ: «فَيَسْتَجِيبُ لَكَ وَحْدَهُ وَتُشْرِكُهُم مَعَهُ؟ أَرَضِيتَهُ في الشُّكْرِ أَمْ تَخَافُ أَنْ يُغْلَبَ عَلَيْكَ؟».

قَالَ: وَلا وَاحِدَةً من هَاتَيْنِ؛ قَالَ: وَعَلِمْتُ أَنِّي لَمْ أُكَلِّمْ مِثْلَهُ.

قَالَ: «يَا حُصَيْنُ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ».

قَالَ: إِنَّ لِي قَوْمَاً وَعَشِيرَةً، فَمَاذَا أَقُولُ؟

قَالَ: «قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَهْدِيكَ لِأَرْشَدِ أَمْرِي، وَزِدْنِي عِلْمَاً يَنْفَعُنِي».

فَقَالَهَا حُصَيْنٌ، فَلَمْ يَقُمْ حَتَّى أَسْلَمَ.

فَقَامَ إِلَيْهِ عِمْرَانُ ابْنُهُ، فَقَبَّلَ رَأْسَهُ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ.

فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَكَى وَقَالَ: «بَكَيْتُ من صَنِيعِ عِمْرَانَ، دَخَلَ حُصَيْنٌ ـ أَبُوهُ ـ وَهُوَ كَافِرٌ فَلَمْ يَقُمْ إِلَيْهِ عِمْرَانُ، وَلَمْ يَتَلَفَّتْ نَاحِيَتَهُ، فَلَمَّا أَسْلَمَ قَـضَى حَقَّهُ، فَدَخَلَنِي من ذَلِكَ الرِّقَّةُ».

فَلَمَّا أَرَادَ حُصَيْنٌ أَنْ يَخْرُجَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «قُومُوا فَشَيِّعُوهُ إلى مَنْزِلِهِ». (إِكْرَامَاً لَهُ).

فَلَمَّا خَرَجَ من سُدَّةِ البَابِ رَأَتْهُ قُرَيْشٌ وَقَدْ أَسْلَمَ، فَقَالُوا: صَبَأَ؛ وَتَفَرَّقُوا عَنْهُ. عَزَاهُ في الإِصَابَةِ إلى ابْنِ خُزَيْمَةَ بِإِسْنَادِهِ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

تاريخ الكلمة:

الأحد: 11/رمضان/1439هـ، الموافق: 27/ أيار / 2018م