35ـ الأدلة على أرجحية عقله صلى الله عليه وسلم (2)

 

من كتاب سيدنا محمد رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

35ـ الأدلة على أرجحية عقله صلى الله عليه وسلم (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني   ***   هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا

كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ   ***    لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا

يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: 4ـ إِرْسَالُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَنْ يُخَذِّلُ بَيْنَ صُفُوفِ أَعْدَائِهِ مُخَادَعَةً لَهُمْ، وَاخْتِيَارُهُ الرَّجُلَ المُنَاسِبَ لِأَنْ يَتَدَخَّلَ بَيْنَ العَدُوِّ، يَخْدَعُهُمْ وَيُفَرِّقُ شَمْلَهُمْ:

وَمِنْ ذَلِكَ: مَا فَعَلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الأَحْزَابِ، حِينَ أَتَاهُ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الأَشْجَعِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنِّي أَسْلَمْتُ، وَإِنَّ قَوْمِي لَمْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي، فَمُرْنِي بِمَا شِئْتَ.

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا أَنْتَ فِينَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَخَذِّلْ عَنَّا إِنِ اسْتَطَعْتَ، فَإِنَّ الحَرْبَ خُدْعَةٌ، فَاذْهَبْ فَشَتِّتْ جُمُوعَ العَدُوِّ وَأَلْقِ بَيْنَهُمْ بِدَهَائِكَ».

فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى بَنِي قُرَيْظَةَ ـ وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ اليَهُودِ ـ وَكَانَ لَهُمْ نَدِيمَاً، فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي إِيَّاكُمْ، وَخَاصَّةً مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.

قَالُوا: صَدَقْتَ لَسْتَ عِنْدَنَا بِمُتَّهَمٍ.

فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ قُرَيْشَاً وَغَطَفَانَ (وَقَدْ جَاءُوا مِنْ مَكَّةَ، وَتَجَمَّعُوا عَلَى جَانِبِ المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ، لِمُحَارَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، وَتَحَالَفَتْ مَعَهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ مِنَ اليَهُودِ المُقِيمِينَ في المَدِينَةِ عَلَى ذَلِكَ) لَيْسُوا كَأَنْتُمْ (أَيْ: مِثْلَكُمْ) البَلَدُ بَلَدُكُمْ، بِهِ أَمْوَالُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ، لَا تَقْدِرُونَ أَنْ تَتَحَوَّلُوا مِنْهُ إلى غَيْرِهِ، وَإِنَّهُمْ جَاءُوا إلى حَرْبِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقَدْ ظَاهَرْتُمُوهُمْ عَلَيْهِمْ، وَبَلَدُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ بِغَيْرِهِ (أَيْ: بِغَيْرِ بَلَدِكُمْ) فَإِنْ رَأَوْا نُهْزَةً أَصَابُوهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ لَحِقُوا بِبِلَادِهِمْ، وَخَلَّوْا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ ـ أَيْ: مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ ـ بِبَلَدِكُمْ، وَلَا طَاقَةَ لَكُمْ بِهِ إِنْ خَلَا بِكُمْ، فَلَا تُقَاتِلُوا مَعَهُمْ حَتَّى تَأْخُذُوا مِنْهُمْ رَهْنَاً مِنْ أَشْرَافِهِمْ، يَكُونُونَ بِأَيْدِيكُمْ ثِقَةً لَكُمْ، عَلَى أَنْ تُقَاتِلُوا مَعَهُمْ مُحَمَّدَاً حَتَّى تُنَاجِزُوهُ.

فَقَالُوا لِنُعَيْمٍ: لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ.

ثُمَّ أَتَى نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ قُرَيْشَاً، فَقَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ: قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي لَكُمْ وَفِرَاقِي مُحَمَّدَاً، وَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَمْرٌ رَأَيْتُ حَقَّاً عَلَيَّ أَنْ أُبْلِغَكُمُوهُ، نُصْحَاً لَكُمْ فَاكْتُمُوهُ عَنِّي.

قَالُوا: نَفْعَلُ.

فَقَالَ نُعَيْمٌ: إِنَّ يَهُودَ نَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا، وَأَرْسَلُوا إلى مُحَمَّدٍ: إِنَّا قَدْ نَدِمْنَا عَلَى مَا فَعَلْنَا، أَيُرْضِيكَ أَنْ نَأْخُذَ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ رِجَالَاً نَضْرِبُ أَعْنَاقَهُمْ، ثُمَّ نَكُونَ مَعَكَ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ حَتَّى نَسْتَأْصِلَهُمْ؟

فَأَرْسَلَ إِلَيْهِم ـ مُحَمَّدٌ ـ: نَعَمْ.

قَالَ نُعَيْمٌ: فَإِنْ بَعَثَتْ إِلَيْكُمْ يَهُودُ يَلْتَمِسُونَ مِنْكُمْ رَهْنَاً فَلَا تَدْفَعُوا إِلَيْهِمْ رَجُلَاً وَاحِدَاً، ثُمَّ إِنَّ نُعَيْمَاً أَتَى غَطَفَانَ فَقَالَ: إِنَّكُمْ أَصْلِي وَعَشِيرَتِي وَأُحِبُّ النَّاسَ إِلَيَّ وَلَا أَرَاكُم تَتَّهِمُونَنِي ـ أَيْ: بَلْ أَنَا مُصَدَّقٌ عِنْدَكُمْ ـ.

فَقَالُوا: صَدَقْتَ وَماَ أَنْتَ عِنْدَنَا بِمُتَّهَمٍ.

قَالَ نُعَيْمٌ: فَاكْتُمُوا عَنِّي.

قَالُوا: نَفْعَلُ، فَقَالَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ لِقُرَيْشٍ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَكَانَ مِنْ صُنْعِ اللهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَرُؤُوسَ غَطَفَانَ أَرْسَلُوا إلى يَهُودَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، عِكْرِمَةَ في نَفَرٍ مِنَ القَبِيلَتَيْنِ: إِنَّا لَسْنَا بِدَارِ مُقَامٍ، وَقَدْ هَلَكَ الخُفُّ وَالحَافِرُ ـ أَيْ: الإِبِلُ وَالخَيْلُ ـ فَاغْدُوا للقِتَالِ، حَتَّى نُنَاجِزَ مُحَمَّدَاً وَنَفْرُغَ مِمَّا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ.

فَأَرْسَلُوا ـ أَيْ: يَهُودَ بَنِي قُرَيْظَةَ ـ إِلَيْهِمْ ـ إلى قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ ـ: إِنَّ اليَوْمَ يَوْمُ السَّبْتِ، لَا نَعْمَلُ فِيهِ شَيْئَاً وَكَانَ قَدْ أَحْدَثَ فِيهِ ـ أَيْ: في السَّبتْ ِـ بَعْضُنَا حَدَثَاً، فَأَصَابَهُ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكُمْ ـ أَيْ: مُسِخُوا ـ وَلَسْنَا بِمُقَاتِلِينَ مَعَكُمْ حَتَّى تُعْطُونَا مِنْ رِجَالِكُمْ، يَكُونُونَ بِأَيْدِينَا ثِقَةً لَنَا حَتَّى نُنَاجِزَ مُحَمَّدَاً، فَإِنَّا نَخْشَى إِنِ اشْتَدَّ عَلَيْكُمُ القِتَالُ، أَنْ تَرْجِعُوا إلى بَلَدِكُمْ ـ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا ـ وَتَتْرُكُونَا وَالرَّجُلَ ـ أَيْ: مُحَمَّدَاً ـ وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ.

فَقَالَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ: وَاللهِ إِنَّ الذي حَدَّثَكُمْ نُعَيْمٌ بِهِ لَحَقٌّ، فَأَرْسَلُوا إلى بَنِي قُرَيْظَةَ: إِنَّا وَاللهِ لَا نُقَاتِلُ مَعَكُمْ حَتَّى تُعْطُونَا رَهْنَاً، فَأَبَوْا عَلَيْهِمْ.

وَخَذَّلَ اللهُ بَيْنَهُمْ، وَبَعَثَ اللهُ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ في لَيَالٍ شَدِيدَةِ البَرْدِ، فَأَكْفَأَتْ قُدُورَهُمْ، وَطَرَحَتْ أَبْنِيَتَهُمْ. ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ إِسْحَاقَ، كَمَا في شَرْحِ المَوَاهِبِ، وَلَخَّصَ ذَلِكَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في الفَتْحِ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 14/رمضان/1439هـ، الموافق: 30/ أيار / 2018م