38ـ الأدلة على أرجحية عقله صلى الله عليه وسلم (5)

 

من كتاب سيدنا محمد رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

38ـ الأدلة على أرجحية عقله صلى الله عليه وسلم (5)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني   ***   هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا

كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ   ***    لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا

يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: 9ـ مُعَامَلَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَحُسْنُ سِيَاسَتِهِ، وَمُدَارَاتُهُ للنَّاسِ عَلَى مُخْتَلَفِ طَبَقَاتِهِمْ تَأْلِيفَاً لَهُمْ، وَاسْتِمَالَتُهُمْ نَحْوَ الحَقِّ الذي جَاءَ بِهِ، بِتَلْطِيفِ الحَالِ وَلِينِ المَقَالِ:

كَما رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «رَأْسُ الْعَقْلِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاللهِ التَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ» رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ وَالبَزَّارُ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ كَمَا في فَيْضِ القَدِيرِ وَشَرْحِ المَوَاهِبِ، وَعَزَاهُ في فَتْحِ البَارِي إلى البَزَّارِ بِلَفْظِ: «رَأْسُ الْعَقْلِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاللهِ مُدَارَاةُ النَّاسِ» وَتَعَقَّبَهُ السَّخَاوِيُّ بِأَنَّ لَفْظَ البَزَّارِ «التَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ» اهـ كَمَا في شَرْحِ المَوَاهِبِ.

وَكَانَ يُدَارِي السُّفَهَاءَ وَالحَمْقَى، لِيَكُفَّ مِنْ غَائِلَتِهِمْ وَشَرِّهِمْ، وَلِيَسْتَمِيلَهُمْ وَيَجْلِبَ قُلُوبَهُمْ نَحْوَ السَّدَادِ وَالرَّشَادِ: فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ رَجُلَاً اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: «بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ، وَبِئْسَ ابْنُ العَشِيرَةِ» (بِالوَاوِ، وَفِي رِوَايَةٍ: بِأَو، وَهُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي حِينَئِذٍ).

فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ (قَالَ في الفَتْحِ: أَيْ: أَبْدَى لَهُ طَلَاقَةً، وَفِي رِوَايَةٍ: بَشَّ. اهـ) وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ ـ وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَمَّا دَخَلَ أَلاَنَ لَهُ الكَلَامَ ـ.

فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: يَا رَسُولَ اللهِ، حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ انْطَلَقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَائِشَةُ، مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشَاً، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ».

وَفِي رِوَايَةٍ: «اتِّقَاءَ فُحْشِهِ» أَيْ: لِأَجْلِ اتِّقَاءِ قُبْحِ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ هَذَا الرَّجُلُ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الأَحْمَقُ ـ أَيْ: فَاسِدَ العَقْلِ ـ لَمْ يُقَابِلْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِغِلْظَةٍ وَفُحْشٍ، بَلْ أَلَانَ لَهُ القَوْلَ، وَسَلَكَ مَعَهُ مَسْلَكَ المُدَارَاةِ.

وَلِذَا قَالَ العُلَمَاءُ: هَذَا الحَدِيثُ أَصْلٌ في المُدَارَاةِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ المُدَارَاةِ المَطْلُوبَةِ، وَبَيْنَ المُدَاهَنَةِ المَذْمُومَةِ:

أَنَّ المُدَارَاةَ هِيَ: بَذْلُ الدُّنْيَا لِصَلَاحِ أَمْرِ الدُّنْيَا أَو الدِّينِ، أَو صَلَاحِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ مَعَاً، وَمِنْ ذَلِكَ البَذْلُ: لِينُ الكَلَامِ، وَتَرْكُ الإِغْلَاظِ في القَوْلِ وَالرِّفْقُ بِالجَاهِلِ في التَّعْلِيمِ، وَالرِّفْقُ بِالفَاسِقِ في النَّهْيِ عَنْ فِعْلِهِ، وَتَرْكُ الإِغْلَاظِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُظْهِرْ مَا هُوَ فِيهِ، وَالإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِلَطْمَةٍ حَتَّى يَرْتَدِعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ. انْظُرْ شَرْحَ المَوَاهِبِ.

قَالَ الإِمَامُ القَسْطَلَانِيُّ: وَهِيَ مُبَاحَةٌ وَرُبَّمَا اسْتُحْسِنَتْ.

قَالَ الحَافِظُ الزَّرْقَانِيُّ: وَرُبَّمَا اسْتُحْسِنَتْ فَكَانَتْ مُسْتَحَبَّةً أَو وَاجِبَةً.

وَللدَّيْلَمِيِّ في الفِرْدَوْسِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعَاً: إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَنِي بِمُدَارَاةِ النَّاسِ كَمَا أَمَرَنِي بِإِقَامَةِ الفَرَائِضِ.

وَلِابْنِ عَدِيٍّ وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعَاً: «مُدَارَاةُ النَّاسِ صَدَقَةٌ» اهـ. كِلَا الحَدِيثَيْنِ فِيهِ ضَعْفٌ، كَمَا في شَرْحِ المَنَاوِيِّ.

وَأَمَّا المُدَاهَنَةُ فَهِيَ: بَذْلُ الدِّينِ لِصَلَاحِ الدُّنْيَا، وَهِيَ مَذْمُومَةٌ، وَقَدْ نَزَّهَ اللهُ تعالى نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا، فَقَالَ: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾. وَإِنَّمَا كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُدَارِي وَلَا يُدَاهِن.

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُقْبِلُ بِوَجْهِهِ عَلَى شَرِّ الْقَوْمِ، يَتَأَلَّفُهُمْ بِذَلِكَ. الحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَيَأْتِي بِتَمَامِهِ.

خامساً: وَمِنْ أَعْظَمِ الأَدِلَّةِ عَلَى كَمَالِ عَقْلِهِ الشَّرِيفِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَرْجَحِيَّتِهِ: سَعَةُ عُلُومِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ أَفَاضَ اللهُ تعالى عَلَيْهِ العُلُومَ العُظْمَى، وَالمَعَارِفَ الكُبْرَى، وَأَرَاهُ الآيَاتِ، وَأَيَّدَهُ بِالبَيِّنَاتِ، وَصَدَّقَهُ بِالمُعْجِزَاتِ، وَجَمَعَ لَهُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الوَحْيِ الإِلَهِيِّ، وَذَلِكَ لَا يَقُومُ بِهِ، وَلَا يَقْدِرُ لِتَحَمُّلِهِ إِلَّا مَنْ خَصَّهُ اللهُ تعالى بِأَعْظَمِ قَلْبٍ، وَأَوْسَعِ عَقْلٍ، أَلَا وَهُوَ السَّيِّدُ الأَكْرَمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ في هَذِهِ المُنَاسَبَةِ أَنَّ جَمِيعَ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ القَضَايَا وَالأَوَامِرِ، وَالإِرْشَادَاتِ وَالتَّعْلِيمَاتِ، وَالجُزْئِيَّاتِ وَالكُلِّيَّاتِ، هِيَ أَمَانِي العُقَلَاءِ وَالحُكَمَاءِ، وَغَايَاتُ أَهْلِ النَّظَرِ وَالفِكْرِ (كَمَا أَعْلَنَ ذَلِكَ العَلَاءُ بْنُ الحَضْـرَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ للمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى حِينَ أَرْسَلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابِهِ إِلَيْهِ وَاعْتَرَفَ لَهُ بِذَلِكَ المُنْذِرُ كَمَا تَقَدَّمَ).

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَيَتَّضِحُ لَكَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:

الوَجْهُ الأَوَّلُ: إِنَّ مَوْضِعَ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ هُوَ العَقْلُ، حَتَّى إِذَا فُقِدَ العَقْلُ ارْتَفَعَ التَّكْلِيفُ، وَهَذَا وَاضِحٌ في اعْتِبَارِ تَصْدِيقِ العَقْلِ بِالأَدِلَّةِ في لُزُومِ أَوَامِرِ التَّكْلِيفِ، فَلَوْ جَاءَتِ الأَوَامِرُ الشَّرْعِيَّةُ التي جَاءَ بِهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى خِلَافِ مَا تَقْتَضِيهِ العُقُولُ السَّلِيمَةُ، لَكَانَ لُزُومُ التَّكْلِيفِ بِهَا عَلَى العُقَلَاءِ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ.

الوَجْهُ الثَّانِي: لَو كَانَتْ أَوَامِرُهُ وَمَنَاهِيهِ وَقَضَايَاهُ غَيْرَ مَعْقُولَةٍ، لَكَانَ التَّكْلِيفُ بِهَا تَكْلِيفَاً بِمَا لَا يُطَاقُ، لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ بِالتَّصْدِيقِ بِمَا لَا يُصَدِّقُهُ العَقْلُ.

الوَجْهُ الثَّالِثُ: لَوْ كَانَ فِيمَا جَاءَ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُنَاقَضَةٌ للعُقُولِ، لَكَانَ الكُفَّارُ في زَمَنِهِ أَوَّلَ مَنْ رَدُّوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا في غَايَةِ الحِرْصِ عَلَى رَدِّ مَا جَاءَ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يَفْتَرُونَ عَلَيْهِ وَعَلَى شَرِيعَتِهِ، فَتَارَةً يَقُولُونَ سَاحِرٌ، وَتَارَةً مَجْنُونٌ، وَتَارَةً يُكَذِّبُونَهُ، كَمَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ في القُرْآنِ: سِحْرٌ وَشِعْرٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِمُ المُتَنَاقِضِ، فَإِنَّ السِّحْرَ وَالشِّعْرَ كَيْفَ يَتَّفِقُ مَعَ الجُنُونِ .. !!.

فَلَوْ كَانَتْ قَضَايَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَعْقُولَةٍ لَكَانَ أُولَى مَا يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا لَا يُعْقَلُ، أَو مُخَالِفٌ للعُقُولِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَلَمَا صَدَرَ مِنْهُمْ ذَلِكَ التَّنَاقُضُ في قَوْلِهِمْ سَاحِرٌ وَشَاعِرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ!.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

تاريخ الكلمة:

الأحد: 18/رمضان/1439هـ، الموافق: 3/ حزيران / 2018م